مقبول العلوي في "سفر برلك" يتوسّد بالتاريخ ليفضح الاحتلال

  • 12/23/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

جرت تغيّرات كثيرة على مفهوم الرواية، تأثّرا بالتحولات التي أفرزتها النظرية النقدية تارة، ونظرية الرواية تارة ثانية، والتغيرات التي أفرزتها الثورة التكنولوجية على المجتمع، الذي صار في سباق محموم مع الزمن تارة ثالثة، فلم يعد الشكل الكلاسيكي أو الزمن الكرنولوجي أهم ما يميزها، بل صارت الكتابة أشبه بلعبة تزاوج بين الحضور والغياب في أحد جوانبها. لكن المصير المثير للجدل أن هذا غير حاضر في روايات الجوائز العربية التي تحبذ الكلاسيكيات. في القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية، بين يديّ روايتان الأولى “فردقان: اعتقال الشيخ الرئيس” ليوسف زيدان، وهي صادرة عن دار الشروق المصرية (2019)، والثانية “سفر برلك” للسعودي مقبول العلوي، صادرة عن دار الساقي (2019). الروايتان تنتصران للحكي، وتضربان عرض الحائط بالتقنيات الحداثية التي مارسها الروائيون في عالمنا العربي، من ستينات القرن الماضي، عندما تمردوا على الشكل الكلاسيكي. الأولى أشبه بسيرة غيريّة للشيخ الرئيس ابن سينا، والثانية، شبه سيرة للبطل ذيب الخلاسي، الذي وقع في الأسر، وإن كان مرّر عبر هذه السيرة القصيرة له، أحداث الثورة العربية، لكونه شاهدا على ما جرى من أهوال وانتهاكات. هذا الاحتفاء بهذه الروايات على مدار مسيرة جائزة البوكر، يشكّل سؤالا عن ماهية رواية الجوائز، خاصة بعد غياب صنعة الكتابة عن الروايات المرشحة بصفة عامة. سيرة ذيب سأتوقف عند رواية مقبول العلوي، وهو روائي سعودي سبق أن ترشّح للقائمة الطويلة عام 2011 عن روايته الأولى “فتنة في جدة”. وها هي المرة الثانية يصل إلى البوكر. روايته الجديدة “سفر برلك”، رواية قصيرة لا تتجاوز 160 صفحة وهي سمة يتسم بها العلوي، فجميع رواياته السّابقة تأخذ سمت الروايات القصيرة الأقرب إلى النوفيلا، وإن كان يتكئ بشكل أساسي على السّرد وتناميه، متوسّدا بلغة جاذبة سلسلة، تشدّ القارئ إلى النص بسهولة. العلوي في الرواية الجديدة “سفر برلك”، والتي تعني باللغة العثمانية النفير العام، والتأهّب للحرب، يخدع قارئه، فبداية الرواية تذهب بنا إلى قطّاع الطرق واللصوص، وغزواتهم، التي تتوّج باختطاف أبناء البوادي والقرى ذوي البشرة السمراء، الخلاسيين، ثم بيعهم بعد تبديل أسمائهم في المدن وفي قلب الصحراء لأمراء البدو وشيوخ القبائل. تتحرك الرواية مع شخصية ذيب بطلها وراويها، وهو شخص مجهول الاسم سقط في يد قُطّاع الطرق، يُدْفع إلى البيع، مُقيّد اليدين والقدمين في حالة أسر. فيسرد تفاصيل الاختطاف، ورحلة الانتقال من بئر درويش، غرب المدينة المنورة عام 1915، متنقلا في الفيافي والوديان، وصولا إلى حوش العبيد بالمدينة المنوَّرة، حيث يُباع إلى السيد عبدالرحمن المدني، صاحب المكتبة والمخطوطات، وهناك يبدأ حياة جديدة كمدوّن وحرّ في ذات الوقت. يسرد لنا وقائع رحلة الانتقال من الصحراء إلى المدينة، وفيها يقترب السارد الأنا من صفة الرّحالة، حيث يقدّم صورة مُقزّزة لهؤلاء قُطّاع الطرق ووسائل تعذيبهم للعبيد، عقابا لمن يهرب أو تهديدا لمن يفكّر في الهرب بالموت دون أن تأخذهم شفقة ولا رحمة. وقد يصل التعذيب إلى الاغتصاب كما حدث مع الطفل فارس، ومن فرط الاغتصاب مات، ودفنوه في الصحراء. في تغيير مفاجئ بعد هذه الرحلة، التي تقود العبد إلى منزل السيد عبدالرحمن المدني، وقد اشتراه من حوش العبيد، ودفع فيه مبلغا كبيرا من المال، يستقر في منزل الشيخ عبدالرحمن، وبعد أن يطيب له المقام مع سيده الجديد الذي يعامله على أنّه ابنه، يتحوّل السّرد إلى سرد تاريخي، يدخل بنا إلى أحداث الثورة العربية وصراع العثمانيين مع الشريف حسين، ورغبة العثمانيين في ربط المدينة بالأستانة. ومن ثمّ تبدو الرواية في إحدى صورها ليست حكاية الفتى ذيب، وما تعرّض له في حياته من رق واستلاب، أكثر من مرّة، وإنما هي بمثابة تسجيل لأحداث ووقائع الاحتلال العثماني للمدينة، وانتهاكاته التي لم تقف عند البشر، وقسوته التي وصلت إلى سبي الأم دون مراعاة لتوسلاتها، بأن تجلب ابنتها حديثة الولادة. وغيرها من صور تخلق النفور من هذا المحتل. وبالمثل سرقة محتويات مكتبة عارف حكمت والمكتبة المحمودية بالشام، ونقل ما بهما من مخطوطات وكتب إلى إسطنبول، وبالمثل نقل محتويات حجرة الرسول إلى إسطنبول. تناقض سردي الرواية في مجملها، مجرد حكاية وتتبع للأحداث، لكن كيف صيغت الحكاية؟ هذا غير متحقّق، مع الأسف، فالسّرد قائم على الضمير المتكلم في معظم أجزائه، وفي جزء قليل منه أعار السّارد صوته لأمه، وهي تروي عن مأساة الأب، وكيف جُلبت من بلاد النوبة. وعن الإكراهات التي مورست ضدهم من أجل أن يتنازل الأب عن البيت. ولكن في الوحدة السردية (32)، المعنونة بـ”قلعة الحامية العثمانية (القشلة) بالقرب من باب العنبرية”، نجد السرد يتحوّل إلى الضمير الغائب، فيحكي عن فخري باشا، ورفضه الامتثال للواقع بعد الهزيمة على يد الحلفاء، وإصراره على عدم الانسحاب من المدينة، فينقل لنا هذا الراوي الغائب الحوار بين فخري باشا والجنود، وانفعالاته، وكأنه راو قريب وملاصق للشخصيات. هذا التحوّل في استخدام الضمير لا نعرف سببه، خاصة وأنه في الوحدة السردية التالية (33) المعنونة بـ”خان المحطة – دمشق –2”، يعود السرد بالأنا، وإن كان ينقل لنا المسرود عن آخرين هكذا “وصلتني الأخبار هنا في دمشق…” وهو يتتبع مصير فخري باشا الذي اقتيد إلى مصر مقيدا، ومنها حملته سفينة إلى مالطا ليقضي بقية سجنه معزولا هناك. ويكمل هكذا “وسمعت أن حكم المدينة المنورة قد آل إلى الشريف” وكان الأولى للرواي أن يفعل هذا في الوحدة السابقة، بدلا من أن يستحضر راويا غائبا (أشبه بالدخيل) دون أن يكون له دور داخل النص، سوى رواية هذا المشهد فقط. الشيء الثاني الذي لا يبدو منطقيا، أن ذيب مع أنه صار مِلْكًا للسيد عبدالرحمن المدني، وقد منحه الحرية، في أن يفعل ما يشاء، لكنه لم يبحث عن أمه التي تركها في الصحراء، بعد أن خطفوه منها، ولم يفعل شيئا، وظل هكذا، حتى تمّ نفيه قسريا إلى الشام، وما إن عاد إلى المدينة بعد هزيمة العثمانيين على يد الحلفاء، أوّل شيء فعله هو البحث عن السّيد عبدالرحمن، وما إن فشل في العثور عليه، يعود إلى البحث عن أمه ويقول بعد العثور عليها بعد غياب لثلاث سنوات وبضعة أشهر بسبب الأسر “حالما وضعت وجهي على صدرها، وشممت رائحتها، عدت طفلا صغير السن” وبالطبع يريد الراوي أن نقبل منه هذا الحنين الجارف إلى الأم. وهذا غير منطقي. وكيف لنا أن نقبل تصميمه على أنه سيقاتل “حتى تكتحل عيناه بمرأى أمه”، وهو لم يفعل شيئا، فعودته جاءت جبرية، بعد فقد العثور على سيده. ومن ثم كان البديل هو العودة إلى الأم. في الحقيقة الصورة التي أراد أن ينقلها المؤلف عبر راويه عن بشاعة الوالي فخري باشا، لا تختلف عن تلك الصورة التي فعلها العمدة وأنصاره بتهجير أسرة ذيب، دون أن نعلم، لماذا هم تحديدا؟ وما هي دوافعهما من وراء الاستيلاء على المنزل؟ كما أن الشخصيات داخل النص لا نجد صراعا بينها، جميعها تميل إلى الشخصيات السلبية. الابن لم يفعل أيّ شيء، وإن كان في حالة اغتصاب فارس كان المبرّر أنه مقيّد، ولكن بعد أن وصل إلى سيّد رحيم، ناداه بـ“يا بني”، لماذا تخاذل عن البحث عن أمه وخاله؟ وفي مرحلة لاحقة اضّطر إلى بيع مخطوطات مكتبة السيد عبدالرحمن ومكتبة عارف حكمت، بثمن زهيد كي يتمكّن من السفر إلى مكة. وبالمثل السيد عبدالرحمن المدني، لم يفعل شيئا إزاء الظلم الواقع على بني جلدته، الشيء الوحيد الذي أزعجه أنه امتنع عن “أكل اللحم” لأن اللحم كان بشريا.

مشاركة :