أظهرت نشرة سوق العمل الأخيرة حتى الربع الثالث من العام الجاري ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل من المواطنين والمواطنات إلى 1.025 مليون باحث وباحثة، مسجلا نموا سنويا وصل إلى 11.0 في المائة مقارنة بعددهم خلال الربع الثالث من العام الماضي (923.5 ألف باحث وباحثة). شكل حملة الشهادة الجامعية فأعلى منهم نحو 59.5 في المائة من الإجمالي، وبإضافة حملة شهادتي الثانوية والدبلوم إليهم، سترتفع النسبة إلى 85.3 في المائة من إجمالي الباحثين عن عمل. وعلى المستوى العمري للباحثين، شكلت الشريحة الشابة (20-34) عاما نحو 75.3 في المائة من الإجمالي. يرتقي الاهتمام بهذين البعدين الرئيسين -التعليم، العمر- قبل الاستطراد حول الحلول اللازمة، لما يحملانه من ارتباط وثيق بـ: (1) التكلفة المالية الكبيرة التي تقف خلف تعليم وتأهيل الموارد البشرية الوطنية، وقامت الدولة بتسخير مواردها وإمكاناتها لأجل رفع مستوى التعليم والتطوير لأغلب أفراد المجتمع، ما يقتضي بدوره الاهتمام الأقصى باستثمار وتوظيف تلك الكوادر الوطنية في القنوات الوظيفية الملائمة لها. (2) الخسارة الفادحة اقتصاديا واجتماعيا لعدم استثمار قدرات تلك الكوادر البشرية خلال أفضل مراحلها العمرية -مرحلة الشباب-، وهي خسارة مفتوحة الجوانب سواء على حساب الاقتصاد الوطني والمجتمع من جانب، ومن جانب آخر على حساب تلك الكوادر نفسها من ذكور وإناث، كونها جزءا ثمينا جدا من عمر الباحث أو الباحثة عن عمل لا يمكن تعويضه بأي حال من الأحوال، إذا مضى دون استغلال له فيما يعود عليه بالفائدة والعمل، عدا ما يحمله من مخاطر أخرى محتملة على كل المستويات الأمنية والاجتماعية التي قد تنشأ -لا قدر الله- من طول فترة بطالة تلك الشرائح العمرية من أفراد المجتمع القادرين على العمل. تفسر هذه البيانات الأخيرة أجزاء واسعة من أسباب بطء توظيف العمالة الوطنية، ففي الوقت الذي تكتظ فيه فرص العمل في القطاع الخاص بنسب مرتفعة من العمالة الوافدة غير الماهرة وذات التعليم المتدني، نجد أن سياسات التوطين بوضعها الراهن التي تركز في أغلبها على الكم دون النوع، اصطدمت بضعف قدرتها على إحلال الوظائف في القطاع الخاص. في الوقت ذاته الذي لو اتسمت تلك السياسات والبرامج الهادفة للتوطين بديناميكية أعلى تأخذ بعين الاعتبار عددا من المحددات، من أهمها (1) نوعية الوظائف ومستويات الأجور المدفوعة لها. (2) المستويات الإدارية لتلك الوظائف. (3) حجم المنشآت التي تتوافر فيها الوظائف الملائمة للتوطين. أؤكد أن تلك البرامج لو تسلحت بتلك المحددات، لظهرت مؤشرات أداء أفضل وأكثر جدوى بفارق كبير جدا عما تحقق حتى تاريخه، وهو ما ظلت الأصوات والأقلام المتابعة لتطورات سوق العمل المحلية، تنشده وتطالب به من تلك البرامج منذ تم إقرارها مطلع 2011، ولم تجد حتى تاريخه للأسف الاستجابة الكافية، في الوقت ذاته الذي اكتفى معدو تلك البرامج بإجراء تغييرات هامشية من فترة إلى أخرى عليها دون الوصول بتلك التغييرات إلى عمقها، بما يكفل لها تحقيق قدرة وكفاءة أكبر، يمكن أن تترجم نتائجها القوية والملموسة على أرض الواقع، وبما يسهم فعليا في كبح معدل البطالة المرتفع. وقد سبق أن تم الحديث بصورة متكررة وواسعة في الوقت ذاته عن مقترحات في هذا الخصوص، وما زال الأمل قائما وسيبقى كذلك؛ أن تجد تلك المقترحات استجابة من لدن وزارة العمل كونها الجهاز الحكومي المعني بالدرجة الأكبر بهذا الملف التنموي، ممثلا في زيادة فرص العمل أمام العمالة الوطنية، واستمرار العمل على خفض معدل البطالة. يأتي في مقدمتها: (1) أن يتم انتهاج آلية أحدث لتوطين الوظائف في منشآت القطاع الخاص، تنطلق من تفويض وزارة العمل لتنفيذ برامج التوطين للأجهزة الحكومية، حسب النشاط الاقتصادي الذي يخضع لإشراف ورقابة مختلف الأجهزة الحكومية، وتستهدف هذه المنهجية محاصرة أكثر فعالية لتحدي البطالة، وعملا أكثر سرعة على مستوى رفع معدلات توطين فرص العمل في منشآت القطاع الخاص، وتكثيف الإشراف والرقابة على منشآته، والتركيز بدرجة أكبر على نوعية الوظائف (القيادية والعليا، التنفيذية والمتوسطة)، التي ناهز عددها وفقا لبيانات الربع الثالث 2019 نحو 915 ألف وظيفة، أي ما يناهز نسبة 105 في المائة من أعداد الباحثين عن عمل من حملة الشهادة الثانوية فأعلى (874.7 ألف باحث وباحثة عن عمل). (2) أن تبدأ برامج التوطين بالتركيز بدرجة أكبر على المنشآت العملاقة والكبيرة، التي تستحوذ على أكثر من 40 في المائة الوظائف في القطاع الخاص، ولا يتجاوز معدل التوطين فيها نسبة 25.6 في المائة، مقابل استحواذ العمالة الوافدة على 74.4 في المائة من إجمالي الوظائف، لما تتمتع به تلك الشركات العملاقة والكبيرة من قدرة أكبر مقارنة ببقية المنشآت الأخرى الأصغر حجما، على مستوى تحمل أعباء وتكاليف التوطين وفق مقترحه الراهن، ويتوقع وفقا لهذه المنهجية بحال تم استهداف رفع معدل التوطين في المنشآت العملاقة والكبيرة من معدله الراهن إلى 50 في المائة خلال ثلاثة أعوام مقبلة، أن يثمر عن توفير أكبر من 800 ألف وظيفة، وهو العدد الكفيل بامتصاص أغلب الباحثين عن عمل خلال الأجلين القصير والمتوسط، ويمكن العمل على رفع معدلات التوطين في بقية المنشآت ذات الحجم الأقل بما يعادل نصف حجم فرص العمل لدى المنشآت العملاقة والكبيرة، ليصل إجمالي الوظائف الممكن إيجادها وتوفيرها أمام العمالة الوطنية إلى أعلى من 1.2 مليون وظيفة خلال ثلاثة أعوام مقبلة على أبعد تقدير. ختاما؛ المؤكد أن واقع سوق العمل المحلية أصبح على درجة عالية جدا من الوضوح والشفافية، التي لا تتطلب إلا حسن اختيار وإقرار أفضل الأدوات والبرامج لمعالجة اختلالاتها، وتصويبها في الاتجاه الذي يلبي احتياجات اقتصادنا الوطني ومجتمعنا، والأهمية القصوى لسرعة اتخاذ تلك التدابير الفاعلة قبل فوات فرصها المواتية اليوم. والله ولي التوفيق.
مشاركة :