عاشت الجزائر طيلة عشرة أشهر في عام 2019 على وقع احتجاجات عارمة أطاحت في مرحلة أولى بالرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة لكنها لا تزال تطالب بالإصلاحات وخاصة بالقطع التام مع النظام القديم. وبينما يرى البعض أن الجزائر بدأت تسير فعليا في ركب الانتقال الديمقراطي بإجراء انتخابات رئاسية كانت محل انقسام بين الجزائريين وأفضت إلى انتخاب عبدالمجيد تبون رئيسا، يدفع الشارع المحتج إلى التغيير التام. ولم تمنع وفاة قائد الجيش القوي أحمد قايد صالح وإعلان الحداد في البلد، المحتجين من مواصلة الضغط لتنفيذ مطالبهم الأساسية الداعية إلى تغيير شامل. وتقول العديد من التقارير الدولية ومنها ما صدر بصحيفة لوموند الفرنسية التي قالت لدى تعليقها على رحيل قايد صالح إنه يطرح السؤالين التاليين: هل يمكن لهذا الحدث أن يغير قواعد اللعبة بالجزائر؟ وهل سيواصل الجيش الجزائري اتباع الخط المتشدد الذي وضعه صالح في مواجهة الحراك أم أنه سيختار السير في طريق الانفتاح؟ ودون أن تخوض الصحيفة في محاولة الردّ على السؤالين، قالت إن الرئيس الجديد عبدالمجيد تبون الذي أصبح “الصوت الفعلي للنظام”، لم يرسل بعد إشارات واضحة حول سياسته التي سيتبعها في الأسابيع المقبلة، ولا تزال دعوته للحوار غامضة. تحول الحراك إلى صراع غير معلن بين قيادة الجيش التي تمسكت بالمسار الدستوري من خلال تنظيم انتخابات رئاسية، وقوى في الحراك والمعارضة ممن رفضت هذا الطرح ونظم الآلاف من الطلاب الجزائريين احتجاجا، الثلاثاء، وهتفوا “لا حوار” رافضين عرض الرئيس الجديد بإجراء محادثات وقالوا إنهم سيواصلون الاحتجاجات التي أخرجت الملايين إلى الشوارع في وقت سابق من هذا العام وعشرات الآلاف في الأشهر الأخيرة. إن الحراك الشعبي غير المسبوق في 2019 أراد الجزائريون أن تكون البسمة عنوانه، فوشّح ملامح البلاد طيلة العام تقريبا، في احتجاجات غاضبة أطاحت بنظام قديم، وترنو لحصاد ثمارها بتجسيد الإصلاحات المأمولة في 2020. واستمد حراك الجزائر اسم “ثورة الابتسامة” على خلفية ما تميز به من سلمية في معظم مراحله، ما فتح المجال لاعتماد وسائل وأساليب ثورية مبهجة، منها الغناء والرقص والتعابير والشعارات الفنية، التي دفعت جميعها إلى هذه التسمية. لقد كانت المرحلة حاسمة، لكن الشارع الذي لم تهدأ وتيرة غضبه، لا يزال يطالب بإصلاحات تجسّد التغيير الجذري، والقطع مع الطبقة السياسية القديمة بشكل حاسم، ما يشي بأن المشهد بالبلاد مفتوح على سيناريوهات كثيرة قد يزيح 2020 الستار عن ملامحها. في 22 فبراير، تفجرت انتفاضة شعبية سرعان ما تحولت إلى حراك شعبي أطلق عليه البعض اسم “ثورة الابتسامة”، بدأت إرهاصاتها أسابيع قبل ذلك من خلال احتجاجات متفرقة. البعض قال إن الحراك جاء نتيجة “إحساس بالإهانة” بعد ترشيح الرئيس المريض، فيما وصفها آخرون بأنها صراع بين أركان الحكم في البلاد تم تصديره للشارع. وسواء كان السبب الأول أم الثاني، فإن الثابت هو أن الانتفاضة الشعبية غيرت وجه البلاد، وأسقطت أكثر رؤساء البلاد مكوثا في الحكم (20 سنة) بعد أسابيع من انطلاقها، حيث استقال بوتفليقة مطلع أبريل عقب إعلان قيادة الجيش دعمها لمطالب الشارع. وكانت الانتفاضة أيضا وراء سجن العشرات من كبار المسؤولين السابقين في عهد بوتفليقة من مدنيين وعسكريين ممن ظل البعض منهم حتى وقت قريب يصعب تخيل رؤيتهم وراء القضبان، على غرار قائد المخابرات الأسبق الفريق محمد مدين، والذي كان يوصف بـ”صانع الرؤساء”. كما تم سجن سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس المستقيل، ورئيسي الوزراء السابقين أحمد أويحي وعبدالمالك سلال، وكبار رجال الأعمال، إلى جانب عملية “تطهير” طالت أهم مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية وشملت العشرات من المسؤولين. وفي الأشهر الأخيرة، تحول الحراك إلى صراع غير معلن بين قيادة الجيش التي تمسكت بالمسار الدستوري من خلال تنظيم انتخابات رئاسية، وقوى في الحراك والمعارضة ممن رفضت هذا الطرح، وطالبت برحيل كل رموز النظام، والذهاب إلى مرحلة انتقالية بدستور جديد من أجل صنع قطيعة مع الماضي. وظلت الساحة مسرحا لجدال بين قيادة الجيش وداعميها ممن يعتبرون الانتخابات حجر الزاوية لتأمين استقرار البلاد، وسط محيط متوتر ومعارضين يرون فيها محاولة لتجديد جلد النظام دون تغيير جوهره كما يطالب الشارع. وانتهى الصراع بانتخاب رئيس للجمهورية باقتراع جرى في 12 ديسمبر، وسط مقاطعة من الحراك وجزء من المعارضة، وبنسبة مشاركة قاربت 40 بالمئة. وقد شهدت عمليات الاقتراع منافسة بين 5 مرشحين وصفوا بأنهم من أبناء النظام بحكم تقلدهم مسؤوليات سابقة فيه، لكن البلاد شهدت لأول مرة انتخابات دون شكاوى حول التزوير كما لم يعرف الفائز فيها إلى غاية الانتهاء من فرز الأصوات. وعادت خلافة بوتفليقة في هذا الاقتراع إلى رئيس وزرائه الأسبق عبدالمجيد تبون والذي كان ضحية محيط بوتفليقة بعد إقالته صيف 2017، فيما وصفت قيادة الجيش انتخابه بأنه “الخيار الأنسب للبلاد”. فور إعلان فوزه وبعد تنصيبه، تبنى تبون خطابا “مهادنا” للشارع والحراك، قال فيه إنه “يمد يده للحراك للحوار ونبذ التفرقة”. كما تعهد بتجسيد مطالب التغيير، لكن الحراك تواصل بعد انتخابه بنفس الوتيرة والمطالب الرافضة لأي عرض من النظام، بشكل يوحي باستمرار التظاهر مستقبلا. وترتكز خارطة التغيير التي عرضها تبون على تشكيل حكومة كفاءات وتعديل دستوري “توافقي” خلال العام 2020، إلى جانب تغيير قوانين الانتخابات والأحزاب والذهاب إلى انتخابات نيابية ومحلية مبكرة بعدها وكذلك إصلاحات اقتصادية واستمرار مكافحة الفساد. وظهر انقسام بين معارضي النظام وداخل الحراك بعد عرض الحوار الذي قدمه تبون بين من رفضه بدعوى أنه من رئيس “أمر واقع”، وبين من يدعو إلى حلول عقلانية بقبول التحاور بشروط من قبيل إطلاق سراح معتقلين وإجراءات تهدئة من السلطة تجاه المعارضين.
مشاركة :