غياب الخيال إشكالية طاردت المسلسلات العربية في 2019

  • 12/26/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

لم تتحرّر الدراما العربية كثيرا، في العام 2019 الذي شارف على الانتهاء، من المساحات الضيقة التي فرضها كتاب السيناريو لتحركاتهم على الورق، وظل أغلبهم أسرى الماضي وموجات الحنين لأزمنة هادئة في مجتمعات صاخبة تهدر بأصوات المحتجين أو استلهام أفكار غربية وتعريبها لتتماشى مع الثقافات المحلية مع استثناءات محدودة. ويمثل انحسار مساحة الخيال الدرامي إشكالية يعاني منها الكثير من الإنتاج العربي الذي شهد تناميا على مستوى الكم مع طفرة في الإنتاج الخليجي، وعودة سوريا إلى المنافسة بقوة، وزيادة الاعتماد على ظاهرة الأعمال المشتركة بين أكثر من دولة، وهو ما فرضته الاعتبارات التسويقية لضمان حيز أكبر من المشاهدين. تعاون مشترك راهن الكثيرون على العودة القوية للإنتاج الدرامي السوري عبر الإنتاج الخاص بنحو 15 مسلسلا أو عبر الدخول في شراكات مع دول أخرى في ستة أعمال، لكن العديد من الأعمال جاءت استكمالا لأجزاء سابقة سيطر عليها التسرّع في ظل نهم الإنتاج كي يكون موجودا في أعقاب حلحلة المقاطعة العربية لسوريا. أفرط المنتجون في الأعمال المعبّرة عن الحياة الشامية، “الشاميات”، خلال 2019 بإنتاج خمسة أعمال، غالبيتها لم تمثل إضافات قوية للأجزاء السابقة، مثل الجزء العاشر من مسلسل “باب الحارة”، والجزء الرابع من “عطر الشام”، والجزء الثاني من “وردة شامية”، و“سلاسل الذهب” و“شوارع الشام العتيقة”، والتي تناولت القضايا الاجتماعية واليومية في حياة الدمشقيين خلال حقب زمنية مختلفة. وتقول الناقدة الفنية ماجدة موريس، لـ“العرب”، إن أطر عمل منظومة الإنتاج واحدة وتتعلق بالدفع بنوعيات معنية من الأعمال التي تتماشي مع هوى الجمهور العربي عموما عبر الحارة الشامية القديمة أو الشخصيات التاريخية، لكن تلك الأعمال تتطلب معالجات جديدة في كل مرة لاستمرار جذب الجمهور. دخلت سوريا في العديد من الأعمال المشتركة التي تم صبغها بطابعها المميز في الإخراج والتأليف والتمثيل مثل “دقيقة صمت” بالتعاون مع لبنان، “ورد أسود” بالتعاون مع الجزائر، ما حقّق لتلك الأعمال شعبية كبيرة على مستوى المشاهدة وجماهيرية في البلدين. وتتيح تلك النوعية من الأعمال الفرصة للمخرجين لاستقطاب الوجوه التي يريدونها وكذلك الإنفاق على الديكور والمؤثرات، ما يعطيها مميزات إضافية على عكس الإنتاجات المحلية المرهونة بقدرات شركات الإنتاج التي تقف وراءها، واستعدادها للمخاطرة بالأموال على أمل تعويضها من عائدات المشاهدة. وجاء نمو الإنتاج السوري في خضم سعي رسمي للدفع بقوة الدراما الناعمة من جديد والاستفادة من التطوّرات، وفي سبيل ذلك تم استقطاب بعض الفنانين الكبار الذين هاجروا إلى الخارج بعد تدهور الأوضاع الداخلية. وانعكس تفضيل الممثلين السوريين للأعمال المحلية على تقلص مساهماتهم في الدراما اللبنانية التي كان إنتاجها محدودا ولم يتجاوز خمسة أعمال كإنتاج لبناني خالص، ومُنحت الأعمال التاريخية الأولوية باعتبارها البضاعة التي ثبتت أقدام سوريا في السوق العربية السنوات الماضية، كذلك الصناعة التي أعطتهم ميزة التفوّق على بعض المنافسين. وتقول موريس، إن الإنتاج السوري وجد حضورا أكبر في دراما 2019 مع ضعف المنتج المصري، فمن بين 25 مسلسلا قدّمتها القاهرة لم يتعلق الجمهور سوى بثلاثة أعمال فقط تتسم بالجودة مثل “زي الشمس” و“ولد الغلابة” و“قابيل”، الأمر الذي يُبرهن على الأزمة التي تعاني منها الدراما المصرية وقد صبّت في صالح الدراما السورية والخليجية. واقترب الإنتاج السوري لأول مرة منذ ثماني سنوات من الإنتاج المصري على مستوى الجودة، لكن أعماله حظيت بأفضلية على بعض الشاشات، باعتبار أن تكلفة الشراء أرخص من المنتج المصري الذي تدخل في حساباته الأجور الكبيرة التي يتقاضاها الممثلون، وتركيز السوريين على الأعمال التاريخية والتي تقترب من معظم اللهجات. ويشير البعض من النقاد إلى أن الدراما العربية تحتاج إلى مراجعة في ما يتعلق بالمساحات التي تعمل فيها، فالتنوع المطلوب يقتضي البحث عن أفكار غير تقليدية وتوسيع أفق عملها لتشمل قضايا حياتية وعالمية كالتغير المناخي أو أزمات المياه المتوقعة في المنطقة. وبدأت الدراما التونسية والجزائرية والمغربية تشق طريقها بثبات، وتجذب المشاهدين، لكنها لا تزال مقتصرة على جمهورها المحلي بسبب عامل اللهجة التي تحتاج إلى تفكيك كي يتسنى انتشارها من المحيط إلى الخليج. استلهام مستمر كان فخ الاستلهام من الغرب التهمة التي طاردت الكثير من المسلسلات العربية، ووصل إلى المقدمة الغنائية “التتر” أو الملصق الدعائي “البوستر”، كمسلسل “الهيبة الحصاد”، الذي تشابه البوستر الدعائي له مع المسلسل البريطاني الشهير “الأقنعة الهزلية”، و“أمنيات بعيدة” مع المسلسل التركي “حلقة”، و“هوجان” الشبيه بالفيلم الهندي “عودة سنغهام”، و“حكايتي” المطابق تماما للفيلم الأميركي “دريس مايكر”. وتفاقم الأمر في الدراما المصرية التي وصل حجم الاقتباس بها إلى حد مشاهد كاملة وديكورات المنازل وأداء الشخصيات مثل مسلسل “ولد الغلابة” الذي كان قريبا من السلسلة الأميركية “بريكينغ باد” في أداء أحمد السقا وطريقة الماكياج و“زي الشمس” الذي لا يختلف كثيرا في الشكل عن المسلسل الإيطالي “سوريليه”. ولم يتوقف الاقتباس على الأعمال الغربية فقط بل امتد إلى الإنتاج العربي السابق، كالمسلسل الجزائري “أولاد الحلال” الذي أثار الجدل بين أهالي وهران لتصوير أحد أشهر أحيائهم كمقلب قمامة وملئ بالموبقات، بعدما ظهر اقتباسه من فيلم مصري قديم يحمل العنوان ذاته تم إنتاجه في السبعينات. وارتبط غياب الخيال الدرامي على غالبية المسلسلات في مصر بسيطرة إحدى الشركات الإنتاجية على السوق وتوجيهها فكريا في اتجاه واحد، ما أدى إلى انزواء كتاب السيناريو الكبار، وغياب شبه جماعي للنجوم، مثل عادل إمام ويحيى الفخراني ويسرا وليلى علوي. وتوضح موريس، أن تغيير المنظومة الطبيعية للإنتاج كان السبب وراء تقليص هامش تحرك المؤلفين، فالأسلوب الجديد يتضمن التعاقد مع النجوم قبل وضع السيناريو أو اختيار المخرج، ما يتيح لهم قدرا كبيرا من التدخل ووضع اشتراطات على مساحة الدور، واختيار شبكة من الممثلين المقربين منه بصرف النظر عن تناسب الدور لهم. ويعتبر المسلسل المصري “زلزال” مثالا فجا على تلك الإشكالية بعدما أعلن مؤلفه عبدالرحيم كمال التبرؤ منه، بعدما فوجئ بتدخل بطل العمل محمد رمضان ومخرجه إبراهيم فخر لإجراء تغييرات في بعض خطوط الدراما وإضافة شخصيات وأحداث لم يكتبها تنسف طبيعة العمل من الأساس. الدراما التونسية والجزائرية والمغربية بدأت تشق طريقها بثبات، رغم كونها لا تزال مقتصرة على جمهورها المحلي وكان الموسم الرمضاني المصري باهتا إلى درجة الإحباط على المستوى الفني وتوصيفه من قبل النقاد بأنه الأسوأ على الإطلاق، فلم يتضمن عملا كبيرا يجذب الانتباه سوى “قابيل” و”زي الشمس” و“ولد الغلابة”، وللمرة الأولى لم يوجد مسلسل يجبر المشاهدين على تغيير نمط حياتهم لأجله والالتفاف حوله وقت العرض أو حدوث خلافات أسرية كالمعتاد بشأن الاختيار بين قائمة الأعمال التي تعرض في الوقت ذاته. وبدأت الحكومة تدرك خطورة التوسع في هذه الظاهرة، واعتزمت أن يكون الإنتاج في الموسم الرمضاني المقبل وما بعده، مزيجا بين شركات تابعة لها وأخرى تابعة للقطاع الخاص لإثراء العمل واستعادة المشاهدين لمقاعدهم أمام الشاشة الصغيرة. حتى الكوميديا التي اشتهر بها المصريون، شهدت خلطا غير معتاد بين مفهوم إثارة الضحك والهزل في أعمال لا يرتقي بعضها إلى سذاجة الأطفال، مثل علي ربيع في “فكرة بمليون جنيه”، وحسن الرداد في “الزوجة 18”، وأحمد فهمي في “الواد سيد الشحات”، وإيمي سمير غانم في “سوبر ميرو” وشقيقتها دنيا في “بدل الحدوتة تلاتة” ومي عزالدين في “البرنسيسة بيسة” والتي اعتمدت جميعها على الأفيهات التي تثير الغثيان أكثر من الضحك. وسيطرت أعمال الحركة والرياضات العنيفة على العديد من الأعمال مثل “كلبش 2” و“هوغان” و“لمس أكتاف”، لكن الحوار في بعضها جاء مفككا بمعارك مفتعلة وإفراط في مشاهد الحركة على حساب القدرات التمثيلية أو قوة النص، تتماشى مع الفوضى في كتابة السيناريو وغياب التتابع وضعف الأداء الدرامي للشخصيات. وغابت أيضا المسلسلات التي تعبر عن الطبقة الوسطى في مصر لصالح الأعمال التي تعبّر عن مجتمعات الكومباوند التي يقطنها الأغنياء أو البيئات شديدة الشعبية، رغم أن تلك الطبقة هي المكون الرئيسي للمجتمع، وساهم ضعف السيناريو أيضا في جعل ما تقدّمه الشاشة مفصولا عمّا يعيشه السواد الأعظم من الجمهور. ويقول نقاد، إن كتاب الدراما المصرية واجهوا اشتراطات إنتاجية قاسية فرضت عليهم أعمالا لم يرضوا عنها وبعضهم فضل الهروب إلى التاريخ من القضايا الحياتية أو الاشتباك مع الواقع السياسي والاجتماعي، مثل مسلسل “حواديت الشانزلزيه” الذي نزح إلى تصوير الجمال في الأربعينات. طفرة خليجية يحاول الإنتاج الخليجي تعزيز وجوده على الأرض باستمرار، وساهم في العام 2019 بما يقرب من 25 مسلسلا، غلب عليها الطابعان الاجتماعي التراجيدي والكوميدي كالمعتاد، مع مشاركة ملحوظة لممثلين غير خليجيين، من مصر وسوريا ولبنان، في أدوار البطولة أو كضيوف شرف لا يتعدى ظهورهم حلقات معدودة. لكن غالبية الأعمال الخليجية لا تزال أسيرة الإفراط في القضايا المحلية التي لا تجد لها شعبية في المجتمعات العربية الأخرى، فلا تهم الجمهور الفقير مشكلة إساءة تعامل الخادمات الأجنبيات مع الأطفال الصغار، وينظر إلى تخصيص عمل فني أكثر من حلقتين لتتبّع سلوك خادمة في المنزل إسهابا غير مقبول. أكد الناقد الفني أحمد سعد، إن الدراما العربية بوجه عام تشهد تطورا على مستوى التمثيل والإخراج والمونتاج، لكن تظل الإشكالية الأكبر في السيناريو بسبب الاعتماد على الورش في الكثير منها أو لاعتبارات تتعلّق بغياب الحبكة الدرامية التي تضيع بعد الحلقات الأولى. وتظهر المشكلة ذاتها حال اعتماد كاتب السيناريو على رواية شهيرة، فإفراطه في المعالجة كي يظهر دوره وقدراته على تغيير الشكل الأصلي للعمل ما يضيع معه الهدف الأساسي من القضية ويخلّ بسياقها الزمني والمكاني. وغاصت الدراما الخليجية في المنطقة التاريخية والعاطفية المحببة لها، مثل مسلسل “الديرفة” الذي يعود إلى مجتمع الخمسينات بحثا عن الحب والرومانسية، و”دفعة القاهرة” الذي تناول الفترة ذاتها، عبر قصص مجموعة من الطالبات أثناء فترة دراستهنّ بالمرحلة الجامعية. كما دخل المنتجون في أعمال مشتركة حصدت ثناء النقاد والجمهور عبر معالجة درامية قوية مثل “الحلاج” إنتاج إماراتي – أردني، واعتمدوا في المقام الأول على معالجات تعتمد على قوة النص وعدم الاعتماد فقط على نجومية أو شعبيّة الممثل أو الممثلة. وأضاف سعد، لـ”العرب”، أن المشكلة التي تواجه الدراما الخليجية تتعلق بلهجتها المحلية التي لا تفهمها كثيرا بعض الشعوب العربية، على عكس الشامية والمصرية التي تعتبر بحكم سيطرتها على الدراما لعقود الأسهل بالنسبة لغالبية الشعوب. ومثّل مسلسل “ممالك النار” الذي أنتجته الإمارات وضم تشكيلة من الممثلين العرب الحصان الأسود للعام، باعتباره أول محاولة عربية لمواجهة توغل الدراما التركية واستئثارها بساحة الأعمال التاريخية ويظهر قراءة مغايرة للمتداول حول الدولة العثمانية وانتصاراتها والأوضاع الإنسانية للشعوب التي خضعت لها. وشهدت الدراما العربية انزواء في الأعمال الدينية وتلك الموجهة للأطفال، رغم أن وجودها مطلوب في ظل التحديات التي تواجه المنطقة العربية من قوى متطرفة تحاول فرض تصوّرات مغلوطة عن الدين. ويطالب الكثير من النقاد بالتوسّع في الإنتاج الدرامي الخليجي المشترك الذي انتعش خلال السبعينات والثمانينات في أعقاب إنشاء مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك التابعة لمجلس التعاون الخليجي، والتي نشطت في إنتاج أعمال درامية بعضها موجه للأطفال مثل “افتح يا سمسم” الذي شكل قيم أجيال كاملة. وتعاني المسلسلات العربية من غياب قياسات الرأي العام الحقيقية التي تعطيهم نوعا من رجع الصدى حول أعمالهم أو إعطاء مؤشرات حول الأعمال التي يريدونها، وربما يحاول بعضهم مثل خالد النبوي استغلال صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي استطلاع الآراء حول الأدوار التي يطلب منه تجسيدها. ويخشى النقاد من استمرار إشكاليات الدراما العربية في العام الجديد مع الإعلان عن سلسلة من التعاقدات مع النجوم من الآن، ومحاولة استثمار الأعمال التي حصلت على ترحيب من الجماهير في الدفع بأجزاء جديدة منها في مغامرة تتوقّف على قدرة الورق على توليد أحداث جديدة شيقة أو بناء جيد للشخصيات.

مشاركة :