من الممكن أن يسهم السفر في توسيع أفق المرء؛ لكن بعض الرحلات بالتأكيد ليست لأصحاب القلب الضعيف. ولدى التجول عبر أرجاء الموقع الإلكتروني لاتحاد الكرة الإنجليزي، يمكن الاطلاع على الأسباب القائمة خلف قراراته التأديبية بخصوص قضايا عنصرية، وهي أسباب تفتح الباب على عالم غير لطيف، ومن الأفضل تركها للمستكشفين الجسورين. ومع هذا، فإنه بعد قليل من التفكير ربما نجد من الضروري أن يخوض الجميع هذه الرحلة؛ خصوصاً في ظل الحوادث العنصرية المتوالية بالملاعب، ربما يتعين على الجماهير دراسة الحجج المطروحة، والتي تتسم بعض الأحيان بالتعقيد، والتعرف على التفاصيل الدقيقة خلف قرار معاقبة اللاعب جونجو شيلفي، لاعب نيوكاسل، بالحرمان من اللعب خمس مباريات، وتغريمه 100 ألف جنيه إسترليني، لتوجيهه إهانات عنصرية لرومان سايس، لاعب وولفرهامبتون واندررز، عام 2016. والقرار المشابه بإيقاف سوفي غونز لإصدارها صيحات تشبه أصوات القردة، في وجه رينييه هكتور، الربيع الماضي. يبدو الوقت ملائماً للبدء في نقاش حول ما إذا كان عبء الإثبات الذي يقره اتحاد الكرة الإنجليزي - المعتمد حالياً على المعيار المدني القائل بـ«توازن الاحتمالات»، وليس الجنائي القائم على فكرة «ألا يقبل الشك» - لا يزال مناسباً. في وقت نشهد فيه تفاقماً في الحوادث العنصرية، يبذل اتحاد الكرة مجهوداً مشكوراً من أجل تعزيز التسامح. ويتعلق جزء من هذا الدور بالتعامل بصرامة كاملة مع التجاوزات، مع فرض عقوبات قاسية ضد المخطئين. ومن الضروري أن يجري التعامل بجدية مع المعاناة التي تعرض لها الضحايا، وأن يرى الجميع إنفاذ العدالة. ومع هذا، فإنه في ظل التداعيات المدمرة واسعة النطاق التي قد يتعرض لها المذنبون على الصعيدين الشخصي والمهني، وحقيقة أن القضايا غالباً ما تكون مربكة ومحيرة ومتناقضة، فإن ثمة مخاوف إزاء المستوى المطلوب حالياً لإقرار دليل إثبات. وفي ظل الإصرار الشديد من جانب شيلفي وغونز على أن قرار إدانتهما كان خاطئاً، هل من الممكن أن يكتسب الكيان التأديبي داخل اتحاد الكرة مصداقية أكبر، من خلال إقرار معيار «الشعور بالارتياح إزاء الإدانة» (معيار يفوق «توازن الاحتمالات» قوة؛ لكنه أقل قوة عن معيار «لا يقبل الشك») الذي تعتمد عليه محكمة التحكيم الرياضية في قضايا تعاطي المنشطات؟ من جانبه، يبدي أنغوس كينير، المدير الإداري لنادي ليدز يونايتد، تفضيله معيار «لا يقبل الشك». جدير بالذكر أن حارس مرمى النادي، كيكو كاستيلا، من المقرر أن يمثل قريباً أمام لجنة مستقلة من اتحاد الكرة تتولى مهمة اتخاذ قرار بشأن ما إذا كان ينبغي تأييد التهمة الموجهة إليه بإهانة لاعب تشارلتون، جوناثان ليكو، على نحو عنصري. وإذا ما خلصت اللجنة إلى أن كاستيلا مدان بالجرم الذي ينفيه، فإنه قد يتعرض للإيقاف لما بين 6 و12 مباراة، الأمر الذي قد يعرض آمال ليدز يونايتد في الصعود للخطر. من ناحيته، قال كينير: «ندعم بشكل كامل إخضاع مثل هذا الزعم الخطير لعملية تأديبية؛ لكن قلقنا ينصب على مسألة أن عبء الإثبات خلال جلسات الاستماع التي يعقدها اتحاد الكرة لا تعمد على مبدأ (لا يقبل الشك). ونعتقد أنه في حالة بمثل هذه الخطورة، من المناسب اعتماد مستوى أعلى لدليل الإثبات؛ خصوصاً أن سمعة رجل على المحك». وربما لديه وجهة نظر وجيهة هنا. جدير بالذكر أن شيلفي، لاعب نيوكاسل يونايتد، جرى اتهامه بأنه وصف سايس - لاعب خط الوسط الفرنسي من أصول مغربية - بأنه «عربي أو مغربي غبي». أما غونز، مهاجمة فريق السيدات في شيفيلد يونايتد، فيقال إنها أطلقت أصوات تشبه صيحات القرود في وجه هيكتور، مختلطة العرق. في كلا الحالتين، فإن غياب أدلة إثبات قوية جعل من غير المحتمل أن تشرع هيئة ادعاءات التاج في إجراءات جنائية ضد اللاعبين. إلا أن هذا لا يعني بالضرورة خطأ قراري الإدانة الصادرين عن لجنة اتحاد الكرة؛ لكنهما يبدوان أقل صلابة في مواجهة محاولات التشكيك. وبعد قراءة الأسباب المكتوبة للقرار، لا يبدو من المستحيل أن غونز أصدرت أصوات طفولية استفزازية بخلاف أصوات القرود، للسخرية من وزن هيكتور أثناء قفزها لتلقي كرة بالرأس. أما دفاع شيلفي بأنه وصف سايس بأنه «أحمق كريه الرائحة»، وليست شتيمة عنصرية، فقد واجه تعقيداً تمثل في أن لاعب خط وسط وولفرهامبتون واندررز الذي لا يتحدث الإنجليزية لم يسمع شيئاً، وإنما تقدم بالشكوى لاعبون من فريق الخصم سمعوا في وقت سابق شيلفي يصفهم بالفلاحين، مع تباهيه بتلقيه أجراً أعلى منهم بكثير. من ناحيته، قال شيلفي: «لم أقل ذلك؛ لكني سأعيش دوماً مع هذا الأمر. وسأكمل حياتي مع ناس يصفونني بالعنصري». أما غونز، فقد هجرت كرة القدم تماماً، وانتقدت هي أيضاً لجنة اتحاد الكرة. وقالت: «كانت محاكمة بلا معنى ولا عدالة. ليست لدي ثقة في اتحاد الكرة». ومن المؤكد أن هذا وصف لن يرضي المحامين واللاعبين والمدربين السابقين الذين يشكلون لجاناً تنظيمية مستقلة، تقيم الأدبة وتستمع إلى الشهود. ومن بين أعضاء مثل هذه اللجان لاعبون أصبحوا لاحقاً محامين، مثل أودو أونويري، وستيوارت ريبلي، وغاريث فاريلين، علاوة على محترفين سابقين، مثل مارفين روبنسون، وتوني أغانا. ومن بين الأعضاء من السيدات المحامية أريشا هاشمي. من المقرر أن يمثل كاستيلا أمام واحدة من هذه اللجان قريباً، وكذلك مارك سامبسون، فبعد ترقية مدرب الفريق الأول في ستيفينيدج بفترة قصيرة ليصبح القائم بأعمال المدرب في سبتمبر (أيلول)، تلقى اتحاد الكرة شكوى من عضو تم طرده حديثاً، كان فريق العمل المعاون للمدرب السابق، دينو مامريا. وزعم أن سامبسون رفض ضم مدافع للنادي لأنه نيجيري. من جهته، ينفي مدرب منتخب إنجلترا للسيدات السابق الاتهام الموجه إليه، ويصر على أنها شكوى كيدية. وبالنظر إلى ماضي سامبسون - تحديداً التعليقات التي تنطوي على تمييز والتي وجهها إلى آني ألوكو ودرو سبنس - من الممكن حال إدانته هذه المرة أن تتضرر مسيرته المهنية بشدة. ويضع هذا بدوره مسؤولية كبرى على عاتق اللجنة التأديبية الموكلة بالنظر في الأمر، ويزيد الحافز لرفع مستوى قوة دليل الإثبات اللازم لإصدار قرار بالإدانة. وينبغي أن ينظر أنصار رفع مستوى الدليل إلى «ما لا يقبل الشك» إلى الإساءة المزعومة من جانب فيرناندو فورستيري ضد كريستيان بيرس. في مارس (آذار)، خلصت محكمة جنائية إلى أن مهاجم شيفيلد وينزداي ليس مداناً بتوجيه إهانات عنصرية ضد مدافع مانسفيلد. ومع هذا، صدرت إدانة بحق اللاعب في يوليو (تموز) من جانب اتحاد الكرة، بإساءة السلوك، وحرم من المشاركة في ست مباريات. وبرر اتحاد الكرة هذا التباين الفاضح، بالإشارة إلى تعليق القاضي بأن غياب دليل داعم يعني أنه يتعين عليه قبول أنه كان أمراً ممكناً، وإن كان في حكمه الأخير قضى بعدم الإدانة. في القانون - كما الحياة - يصعب الوصول إلى الكمال والمثالية؛ لكن معيار «الارتياح تجاه الإدانة» يبدو حلاً وسطاً عادلاً. لقد دعت الأحداث العنصرية المتتالية بالأسابيع الأخيرة بالملاعب، الحكومة البريطانية للتدخل من أجل البدء في إجراء تحقيق في ظاهرة قد تهدد مستقبل كرة القدم بالبلاد. وكانت مباراة توتنهام وتشيلسي الأسبوع الماضي قد توقفت لدقائق، عقب شكوى من المدافع الألماني أنطونيو روديجر لاعب تشيلسي، بعد سماعه لهتافات عنصرية من جانب بعض جماهير توتنهام. وذكرت رابطة لاعبي كرة القدم الإنجليزية المحترفة: «نطالب بتحقيق حكومي في العنصرية داخل ملاعب كرة القدم، وتشكيل مجموعة تمثل كل الأطراف في وزارة التكنولوجيا الرقمية والثقافة والإعلام والرياضة». وأعلن نادي توتنهام أنه سيفتح تحقيقاً من جانبه، وسيتخذ إجراءات للعثور على المتهمين، بينما تم الاحتجاج على برتوكول الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) حول العنصرية لأول مرة في الدوري الإنجليزي، مع الإعلان عن نظام مكبرات الصوت. وذكرت رابطة اللاعبين المحترفين: «من الواضح أن لاعبي كرة القدم باتوا هدفاً للعنصرية الصارخة المنتشرة حالياً في البلاد؛ لكنهم ليسوا وحدهم». وتابعت: «تقف رابطة اللاعبين المحترفين بجانب كل لاعب يواجه التمييز العنصري. سنواصل الكفاح نيابة عنهم لمحاربة هذه القضية إلى الأبد». وأمام كل هذا الضجيج، على اتحاد الكرة أن يراجع معاييره التي تتساهل مع المخطئ، بدلاً من إصدار عقاب صارم.
مشاركة :