في مثل هذه الأيام، لا يخفى على المتوجّه جنوباً بسيارته نحو بلدة مغدوشة اللبنانية أنه بات على بعد كيلومترات منها، لأن عبير زهر الليمون سيستقبله قبل إطلالته على البلدة الوادعة المقابلة لشاطئ البحر والقريبة من مدينة صيدا، والتي لاتزال حريصة على حماية تراثها الزراعي الحرفي، الذي تفاخر به: بهجةً للنفس، شمّاً ونظراً، دواءً، تجارةً وحرفةً. هي قارورة ماء الزهر التي تحمل عبق الربيع، وتخزّنه بعد التقطير في القوارير، وتبقى من أغلى الهدايا التي يمكن تقديمها، ووجودها في كل بيت بات ضرورة من ضرورات الطب المنزلي. وأريجه الفريد يعلن انطلاق موسم قطاف الزهر.. الليمون البرّي المرّ بو صفير وفق تسمّيه الجميع، أوالنارنج حيث تغطّي أشجاره المساحة الكبرى في مغدوشة تحديداً، بسبب تربتها ومناخها، وباعتبارها من المناطق الجنوبية القليلة التي لا تزال تحافظ على مهنة تقطير ماء الزهر، كتراث أصيل ورثه أبناؤها أباً عن جد، إذ تنتج بين 80 و100 طن من الزهر سنوياً، تتحوّل إلى ماء مقطّر (ما بين 5 و6 آلاف زجاجة سنوياً)، يباع في الأسواق أو يصدّر إلى الخارج. مع الإشارة الى أن كيلوغرام الزهر ينتج قنينة سعتها 500 ملليتر، وهو معيار الجودة، إذ كلما زادت الملليترات خفّت الجودة. وفي مغدوشة، ينتظر أبناء البلدة، وغالبيتهم من المزارعين، موسم الزهر بفارغ الصبر ليمارسوا هواية ومهنة ورثوها أباً عن جدّ. تقطير زهر الليمون، والذي يتحدّد موسمه على أساس عامل الطقس، إذ يجري قطاف شجرة الليمون بين مرّة وأربع مرّات في الموسم، بدءاً من بداية شهر مارس وحتى منتصف الشهر الجاري، تبعاً للطقس، إذ يُقال له مال هوا، أي أن إنتاجه معلّق بالطقس والهواء، ويجد المزارعون أنفسهم في سباق مع الوقت تحسّباً، إما لـشتوة ربيعية مباغتة، أو لريح خماسينية حارّة تقصف عرم الزهر قبل أن يُقطف ويُجمع ويُقطّر. حبّة حبّة وقطرة قطرة وتبدأ الرحلة من قطف الزهر الفاتح الشامط المستطيل، إذ كلّما كانت حبّة الزهر كبيرة كانت أفضل، على ألا تتعدّى تفتيحة الزهرة حوالي 15%، وما يرافقه من تعب تستلزمه ساعات العمل اليومي وضرورات القطاف وفق قاعدة حبّة حبّة، مروراً بفرط الزهر على الآخر ومن ثم غربلته وتنقيته من الورق والعيدان. ولا يجوز الاحتفاظ بالزهر أكثر من يوم أو يومين، إذ من المفضل المباشرة فوراً بتقطيره بواسطة كركة (وعاء من الـستانلس ستيل خاص لهذه العملية) تتّسع لسبعة كيلوغرامات من الزهر المقطّر، من خلال البخار الذي يتحوّل إلى ماء الزهر، المعبّأة قطراته في عبوات زجاجية. ويختلف حجم الكركة باختلاف حجم النزل أي عملية التقطير، وما إذا كان الهدف تجارياً أو منزلياً فقط. وقد كانوا في الماضي يشعلون الحطب تحت الكركة. أما اليوم، فيعمدون إلى وضعها على الغاز، بحيث يُوضع الزهر داخل الكركة ويُغمر بالماء، ثم يُقفل عليه بالقسم العلوي من الكركة الذي توضع فيه المياه الباردة. ويجري تطيين الوصلة بواسطة الرماد أو الطحين المجبول بالماء، منعاً للتبخّر في اتجاه الخارج، ويمكن تقوية النار في بداية النزل. وعندما تبدأ قطرات الماء بالخروج من أنبوب متصل بـ الكركة، فمعنى ذلك أن الزهر بدأ يتحوّل إلى بخار، فماء. وعندها، ينبغي تخفيف النار إلى أقصى حدّ، بحيث تنزل القطرات قطرة قطرة. وفي السياق، تجدر الإشارة الى أن مغدوشة فيها معمل تقطير حديث ومتطوّر، تبلغ مساحته نحو 250 متراً مربعاً، يعمل على البخار، ويتألّف من 5 كركات ستانلس ستيل للتقطير، سعة الواحدة منها 650 كلغ من الزهر. وفيه: غرفة تبريد للزهر، للمحافظة على نضارته خلال الأيام الحارة، غرفة تعبئة القناني والغالونات بواسطة آلات آليّة، غرفة خزّانات ستانلس ستيل لتجميع ماء الزهر وخلطه بعد التقطير وغرفة حرّاق كبير لتوليد البخار إلى الكركات. عاصمة الزهر ويبقى أن في هذه البلدة التي يُطلق عليها اسم عاصمة ذهب لبنان الأبيض، لشهرتها بصناعة ماء الزهر من زهر ليمونها الذي تنتجه، يفاخر أبناؤها بزراعتهم لشجر الليمون الـبو صفير، والتي هي زراعة بعليّة، تعتمد على الأمطار في موسم الشتاء، ما يميّز زهرها عن غيره ويجعل ماءه من النوع الممتاز، والذي يُستخدم في صناعة الحلويات الشرقية، تعطير الشراب، وفي الطبّ المنزلي. وتعلم رباّت المنازل أنّ لهذه الزهرة فوائد جمّة، غير استعمال مائها في صناعة الحلويات الشرقية، وإنّما أيضاً لمعالجة التخمة وآلام البطن، كما يضاف منها القليل على قناني الحليب للأطفال الرضّع، ويزيد في انتعاش الماء البارد وطعم القهوة. ثقوب الرشّ كان في الماضي استعمال ماء الزهر عطراً تتطيّب به العرائس والرجال، وكانت أم العريس تحمل بيدها قارورة ذات ثقوب ترشّ منها ماء الزهر على رؤوس الحاضرين وثيابهم. ويصب المحسنون قوارير ماء الزهر في فسقيات المساجد، وفق ما يروي كبار السنّ في صيدا القديمة، ففي الفناء الخارجي لأحد مساجد المدينة بركة ماء، وكان المحسنون يطيّبونها بماء الزهر، خاصة في الأعياد.
مشاركة :