2019 الثائر على السائد يحزم أمتعة الرحيل

  • 12/28/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

قد ينسى العالم ولو إلى حين الفترة الممتدة بين 2011 و2018 التي عرفت تحولات كبرى أفرزها ما يعرف بموجة الربيع العربي التي انطلقت من تونس وانتهت عند حدود سوريا واليمن، لكنه سيحفظ في مذكراته التاريخية عام 2019 الذي كان متمرّدا ومنتفضا بامتياز لا فقط على الأنظمة السياسية الرأسمالية والطائفية بل على الأيديولوجيا برمتها. تشير مختلف التحركات في عواصم عدة من الشرق إلى الغرب إلى أن العالم بات يستشف نظاما جديدا مغايرا لما حكم الشعوب طيلة عقود تلت الحرب العالمية الثانية وما خلقته من تنافس فكري وسياسي بين المعسكرين الغربي الليبرالي والشرقي المحتكم لسلطة أيديولوجيا اليسار. لقد كان عام 2019 المتهيئ لحزم أمتعته ومغادرة التاريخ، محطة فارقة ومفصلية في تاريخ النظم السياسية، إنه عام الغضب بامتياز كما أنه عام تمرّدت فيه الرغبة الاجتماعية الملحة على كل تفاصيل الأيديولوجيا بمتناقضاتها الرأسمالية واليسارية والدينية أيضا. في فرنسا، اشتعلت أزمة أصحاب السترات الصفراء ضد نهم الليبرالية المتوحشة، كما اشتعلت في المشرق انتفاضات متفرقة لكنها مفصلية وذاهبة إلى القطع مع النظم السياسية الطائفية الرافعة لشعارات الثورة الإسلامية في إيران بدل خوض المعركة الحقيقية الاقتصادية التي تؤرق الداخل. كل التحركات في عواصم عدة من الشرق إلى الغرب تشير إلى أن العالم بات على أبواب نظام جديد مغاير لما حكم الشعوب طيلة عقود تلت الحرب العالمية الثانية لم تعد بعد عام 2019، ربما أي إمكانية للحديث عن النظام الدائم المتماسك والقوي وغير المعرض للانهيار في أي لحظة، فلم يكن أحد يعتقد أن يسقط نظام عمر البشير بعد ثلاثة عقود من فرض قبضة حديدية على إرادة الشعب، كما لم يكن أقرب المقربين من المحتجين في الجزائر مستعدا لسماع خبر استقالة الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة الذي حكم الناس بآلة عسكرية يصعب اختراقها أو هزها طيلة عقدين من الزمن. ما إن استوعب العالم التغييرات الحاصلة في السودان والجزائر والتي توصف بأنها مرحلة استكمال موجة الربيع الأولى، حتى أتت الأخبار من العراق ولبنان اللذين تحتج شعوبهما لا فقط على ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية من بؤس بل أيضا على منظومتين طائفتين تقودهما أطراف سياسية مرتهنة لإيران أكثر من ولائها لإرادة شعوبها. افتتح العالم عام 2019 برجة لم تكن متوقعة في السودان، فلم يكن بإمكان عمر البشير الذي حكم السودان لمدة ثلاثين عاما بقبضة من حديد أن يتماسك أو يصمد أكثر بفضل ما فرضته احتجاجات الأرض الثورية التي هزت عرش الحكم، فكانت البداية بتظاهر السودانيين على غلاء المعيشة ثم تحولت المعركة إلى سياسية بامتياز علا فيها صوت واحد شعاره “تسقط وبس”، أو يسقط حكم “الكيزان” نسبة إلى جماعة الإخوان. لم يصمد حكم البشير طويلا بعد أن انفض من حوله أنصاره وخاصة المؤسسة العسكرية وانتهى به الأمر في سجن كوبر الذي كان يحتجز فيه البشير معارضيه. بدأت محاكمة البشير في 19 أغسطس وأصدرت المحكمة الجنائية الخاصة في الـ14 من ديسمبر الحالي الحكم عليه. وحكم القاضي بإيداع البشير في مؤسسة إصلاحية لمدة عامين يتم بعدها حسم المدة حال الانتهاء من التحقيقات مضى الشارع السوداني في المطالبة بدولة مدنية، فتقاسمت المؤسسة العسكرية دواليب الحكم مع المعارضة في مرحلة انتقالية، فأفرزت سلطة برأسين؛ حكومة مؤقتة ومجلس سيادي يتربع على عرشه الجيش. صنفت جميع التقارير الدولية ما يحصل في السودان بأنه موجة ثانية من الربيع العربي، لكن البعض وصف هذا التغيير بحذر وبأنه حالة سودانية خاصة غير قابلة للتصدير خارج الحدود، لكن عشرة أشهر من الاحتجاج في الجزائر عصفت بدورها بنظام كان يعتقد أن جذوره ممتدة في حكم البلد. لقد انطلقت انتفاضة الجزائريين على نظام عبدالعزيز بوتفليقة في شهر فبراير حين أعلن الأخير عن استعداده للترشح لولاية خامسة رغم مرضه الذي منعه من مخاطبة الشعب بصفة مباشرة لأكثر من ست سنوات. لقد ظلت جل التظاهرات في الشارع الجزائري سلمية فوصفت بأنها “ثورة الابتسامة”، لقد كانت ابتسامة طامحة لاقتلاع جذور نظام متجذر في البلد ويقوم أساسه الصلب على جنرالات الجيش. على غرار عمر البشير، لم يصمد بوتفليقة بدوره أكثر من شهر حيث أعلن تنحيه كليا عن الحكم في شهر مارس، معلنا عن بدء مرحلة جديدة في تاريخ الجزائر يشكك فيها الشارع المحتج إلى الآن. خرجت المئات من المسيرات بمختلف محافظات الجزائر، مطالبة لا فقط بالإصلاحات الاقتصادية والسياسية بل بوجوب القطع كليا مع كل من تعامل وخدم تحت إمرة نظام بوتفليقة. لم يقتنع الشارع الجزائري المحتج رغم مرور البلد بما وصف ببداية مرحلة انتقالية ديمقراطية توّجت بانتخاب عبدالمجيد تبون رئيسا للبلاد بأنه قد تمكن من اقتلاع جذور النظام، فأخذ يعبر عن خيبته حتى في لحظات الحداد على رحيل القائد العسكري أحمد قايد صالح مطالبا بقلب النظام رأسا على عقب وبمحاسبة رموز الفساد. وإلى حد التجربة الجزائرية التي كانت في أحلك فتراتها متزامنة مع حراك فرنسي قاده أصحاب السترات الصفراء على النظام الليبرالي الذي يصفونه بأنه وصل مرحلة الإنهاك التي تتطلب بديلا فكريا جديدا يكون قويا ولكنه في الوقت ذاته عادلا، بدت كل التطورات ذات خصوصيات محلية تميز بها كل بلد منتفض. لكن سقط كل هذا التبسيط للعالم الثائر والمتمرّد على كل ماهو سائد، حين أعلن شعبا العراق ولبنان إصرارهما على التغيير عبر المطالبة بقطع كل أوصال النظم السياسية الطائفية المحكومة بأجندات إيرانية لا عراقية ولا لبنانية. وعجت مختلف شوارع لبنان والعراق منذ شهر أكتوبر باحتجاجات لا مطلبية فحسب بل سياسية بامتياز كان عنوانها الأبرز ترسيخ الهوية الوطنية وقتل النظام غير القابل للحياة. تغيرات جوهرية في هذين البلدين لم تكن أخبارها لوحدها مغرية لمسامع المتتبع والمتقبل، بل تزامنت مع حدث آخر لا يقل أهمية من حيث القيمة والمضمون ألا وهو إعلان البنتاغون الأميركي في نفس الفترة من نفس الشهر عن مقتل زعيم تنظيم داعش أبوبكر البغدادي في سوريا، في حدث هام قلب مستقبل التنظيم المتطرف وجعله يندثر شيئا فشيئا إن لم يكن فكريا على الأقل هيكليا. تكابد الأنظمة السياسية في العراق ولبنان للحفاظ على عرشها لكنها لم تجد هذه المرة نفس قوة دعم الحليف الإيراني الذي يشهد بدوره في آخر أشهر عام 2019 أضخم احتجاجات تنذر بزعزعة نظام الملالي منذ احتجاجات عام 2009. تحاول الطبقة السياسية في نظامين عراقي ولبناني محكومين منذ عقود بشريعة الثورة الإسلامية الإيرانية، البحث عن مخارج تخفف من أضرارها وتضمن لها البقاء لكن بأسماء وأشكال مختلفة. في لبنان، لم يجد حزب الله للحكومة المستقيلة بديلا سوى حكومة جديدة تأتمر لأوامره لكن هذه المرة من بوابة أخرى تحت اسم حكومة الكفاءات التي يسعى لتشكيلها حسان دياب. أما في العراق، الذي قال محتجوه كلمتهم الفصل رغم مجابهاتهم بالاغتيالات والاعتقالات والخطف حتى في كربلاء بما تعنيه من رمزية للقيادة السياسية الشيعية الموالية لإيران، فقد انقسم الشارع ورأيه العام الآن بعدما لوّح الرئيس برهم صالح بالاستقالة في موقف معارض للمعسكر السياسي الموالي لطهران ولا طرف آخر غيرها. يتأهّب عام 2019 المملوء بمفاجآت قصمت أظهر الأنظمة والمدارس السياسية الكلاسيكية توّجها صعود الرئيس التونسي قيس سعيّد في أكتوبر إلى كرسي الحكم في قرطاج رغم افتقاده لآلة حزبية قوية تمكنه من المنافسة على السلطة، للرحيل، لكن قضاياه لن تنتهي في حدود الساعة الفاصلة بين 31 ديسمبر و1 يناير فتبعاتها السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية ستلقي بظلالها حتما في مختلف البلدان التي عرفت تغيرات.

مشاركة :