الشعراءُ بين الشروقِ والغروبِ

  • 12/28/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

كان الصباحُ ولايزال يحظى بمكانته السَّنيَّة ومنزلتهِ الرّفيعة بين الناس عموما ، والشعراء على وجه الخصوص ، بل حتى أنه صار ملاذًا للأدباء، وعنصرًا هامًا يذكي جذوة شعرهم ويدوزن مشاعرهم لتظهر كما يليق بالصباح نشاطًا وإشراقًا وتفاؤلًا وإيجابيةً !كل هذا عن الصباح ! عن إشراقته ! عن نشاطه وتوهُّجه ، عن زقزقات عصافيره ، وترانيم فيروزياته ، وتغريدات عُشّاقه والمغرمين بنفحاته ! فماذا إذًا عن الجانب الآخر من الأُفق الجميل، والجناح الموازي لشروق الشمس ؟!ماذا عن الغروب ؟وما هي انعكاساته على الشعراء والأدباء والمتأملين بديعَ صنعِ الله ورائع تصويره،وعجيب تقديره !إنك حين ترى الغروب وما يلقاه من أصداء ومسامرات وأحاديث حالمات ، تُدرك تماما أنه لم يكن أقل وهجًا وألقًا وحضورًا من تجلّيات الصباح ! بل كان له من الشعر أوفره، ومن البوح أروعه، ومن التوصيف أجمله وأبهاه!وكيف لايكون له ذلك وهو الذي يصبغ ألوانه على الكون بعذوبة، وينسج خيوط شمسه على أرواحنا كقبلاتٍ عِذابٍ مورِقات ! وهو الذي يؤذن بميلاد ليلٍ جديدٍ مِلْؤهُ السكون والهدوء والخلوة واللجوء!فمن الأمثلة على التغني بغروب الشمس ما نجده في قصيدة شاعر القطرين ، الشاعر اللبناني المصري مطران :يا للغُرُوبِ ومَا بِهِ مِنْ عَبْرَةٍللِمُسْتَهَامِ وعِبْرَةٍ لِلرَّائيأوليسَ نَزْعاً لِلنَّهَارِ وصَرعَةًلِلشَّمْسِ بين مآتمِ الأَضْوَاءِأوليسَ طَمْساً لِلْيَقِينِ ومَبْعَثاًللِشَّكِّ بين غلائلِ الظَّلْمَاءِأوليسَ مَحْواً لِلْوُجُودِ إِلى مَدىًوَإبَادَةً لِمَعَالِمِ الأَشْيَاءِحَتَّى يَكُونَ النُّورُ تَجْدِيداً لَهَاوَيَكونَ شِبْهَ الْبَعْثِ عَوْدُ ذُكَاءِوَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالنَّهَارُ مُوَدِّعٌوَالْقَلْبُ بَيْنَ مَهَابَةٍ وَرَجَاءِوَخَوَاطِرِي تَبْدُو تُجَاهَ نَوَاظِرِيكَلْمَى كَدَامِيَةِ السَّحَابِ إزَائِيولشاعرِ الجنوب محمد بن علي السنوسي قصيدة رائعة يصف فيها لحظاتِ الغروب ، والشمسُ تعكس وهجها الأخير على صفحة البحرِ في منظر سلب الشاعرَ لبّهُ ، وجعله يُخرج لنا أوصاف بديعةً ، وتراكيب متناغمة وأحاسيس مُتجلّية ، تفيض عجَبًا واستغراقًا ، وتنبض شغفًا وانتشاءً ، ليجعل من غروب الشمس، لوحةً فنّية متناسقة الألوان، بديعةً مدهشةً ! إذ يقول :أراق على البحر ذوب الذهبْوفاض على موجهِ واضطربورقرق صهباءه فاحتستْ. ثغور الذرى وشفاه الصببْوألقى على الشمس من لونهرداءً وقبّلها وانجذبجلاها على الأفق ياقوتةًتوهّج منها السّنا والتهبْوسال على الموجِ من لونهاشعاعٌ تَرَاقص فيه الحببْفيالكَ من منظر ساحرٍنَعِمتُ به لحظةً واحتجبوفي نفس القصيدة يأتي الشاعر بمقطوعةٍ لاتقلّ جمالًا عن سالفتها :نظرتُ إلى البحرِ في ساعةٍوقد جلَّلَ الشمسُ فيه الشفقْوقد جمع الضوءُ أطرافهُوألّف أشتاته واتسقْومالت تودع من يومهانهاراً يودع فيها الرمقْتدلت على الأفق في نشوةٍمضرجةِ الخد والمعتنقْطواها وألحفها صدرهعظيم من اليمِ يدعى الغسقْفيالكَ من منظرٍ ساحرٍنعمتُ به لحظةً وانطلقْولم يكن إبراهيم ناجي الشاعر والطبيب ليترك لحظات الغروب الآسرة تمرّ مرور الكرام وتمضي مضي عقارب الزمن دون وقوف وتأمل :قلتُ للبحر إِذ وقفتُ مساءَكم أطلتَ الوقوفَ والإصغاءَوجعلتَ النسيم زادًا لروحيوشربت الظلال والأضواءلكأنّ الأضواءَ مختلفاتٍجَعَلَتْ منكَ رَوْضَةً غَنّاءَمرَّ بي عطرُها فأسكر نفسيوسَرى في جوانحي كيفَ شاءَنشوةٌ لم تطل صحا القلبُ منهامثل ما كان أو أشدّ عناءَإلى أن يقول :كل يومٍ تساؤلٌ ليت شعريمن ينبِّي فيحسن الإِنباءَ؟!ما تقول الأمواجُ! ما آلم الشمسَ؟فولّت حزينةً صفراءَتركتنا وخلفتْ ليلَ شكٍّأبديُّ والظلمةَ الخرساءَوممّن توقّف عند الغروب وأنشد الشعر فيه الشاعرة العراقية نازك الملائكة حيث نجد أنها قد صبغت قصيدتها بلون التأمل وألبستها وشاح التفكُّر وغرقت بها في لُجّة الخيال :أيّ معنى هاجَ في نفسي الغروبُ؟أجفلتْ في جسدي منه الحياةْوسرى في مسمعي همسٌ غريبٌكلُّه هولٌ ورعبٌ وشكاةْواعتراني خاطرٌ مُشْجٍ رهيبوتجلى لخيالاتي المماتْها أنا وحدي تناجيني غموميوكآباتي وأشباحُ الفناءْكلُّ ما حولي مثير للوجوممصرعُ الشَّمس وأحزانُ المساءْعبثاً أطردُ عن نفسي هموميعبثاً أرجو شعاعاً من رجاءْغرقتْ أحلامُ قلبي في الغيومِوتلاشتْ مثل أحلامِ الضياءْوبين كل هذا وذاك ، نجد الشعراء يهيمون ويطربون لتلك اللحظات الحالمة، ويُبدعون فيها أيّما إبداع ! وإن الملفت للنظر، أنك لاتكاد تجد شاعرًا يُشبه الآخر في تصويره لذلك المنظر، فتجدهم يتباينون في نسجهم ، ويتمايزون في توصيف الغروب بطرائق وألوان وزوايا مُختلفة ومُدهشة، وهذا لا شكّ يُظهر لنا مدى أهمية الشعر، ويؤكد على وظيفته ،حيث جمال التفكُّرْ! وبديع التصوُّرْ!

مشاركة :