أردوغان السلطان الذي يغرق في المتوسط

  • 12/29/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

يتحرك أردوغان على أكثر من جبهة في سبيل غاية واحدة وهي إنقاذ ما يمكن إنقاذه من معاقل تيار الإسلام السياسي الذي خسر الكثير في البلدان العربية خلال السنوات الثماني الأخيرة. الرئيس التركي يعدّ اليوم “رمزا” للإسلام السياسي السني، وهو يدرك جيدا أن خسارة الحركات والفصائل والأذرع المختلفة للأرض تمثل انتكاسة حتمية لمشروع “الخلافة” والإمبراطورية الإسلامية التي يخطط لإعادة تأسيسها وفقا لرؤية إخوانية خالصة. لم تكن ليبيا سوى قاعدة أساسية وجد فيها الإسلاميون ملجأ بعد الضربات المتتالية التي تلقوها في أكثر من مكان. فبعد هزيمة مشروعهم في مصر عام 2013 ثم تحييد غزة (التهدئة مع إسرائيل) وخسارة السودان (سقوط نظام عمر حسن البشير) وتراجع دور الإسلاميين في سوريا، أجبر الرئيس التركي اليوم على القتال بنفسه للدفاع عن آخر معاقل الإسلام السياسي. لا يخلو التدخل التركي في ليبيا من دوافع أيديولوجية بحتة، فالأمر يشبه إلى حد بعيد ما جرى في الشمال السوري ويجري حاليا في إدلب تحديدا. فطرابلس وإدلب مدينتان تمثلان أهم المعاقل العسكرية الأساسية التي لا تزال فعّالة ونشطة لخدمة مشروع تيار الإسلام السياسي السني في المنطقة وتعد خسارتهما انتكاسة كبرى للحركات الإسلامية والجماعات المتطرفة. فأردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية والمعروف بتقلباته السياسية ومزاجيته المتهورة يعمل على استغلال حالة التشتت الحاصلة في سياسات الولايات المتحدة وابتعادها الكبير عن المنطقة من أجل إعادة الروح لمشروع أثبت فشله في المنطقة بعد تجربة ما يعرف بـ”ثورات الربيع العربي”، التي أنهكت البلدان العربية بالحروب والفوضى ودفعت بها للاستقواء بالخارج. والرئيس التركي يستسيغ اللعب على التناقضات بين الولايات المتحدة وروسيا ويحاول الآن “البيع والشراء” في ليبيا لهدف واضح عماده الحفاظ على مشروع جماعة الإخوان المسلمين والذي تمثّل “حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا” واجهته المعلنة. إدامة الفوضى بعد أشهر قليلة من اندلاع ثورة فبراير العام 2011 كانت هناك مخاوف غربية من أصحاب اللحى الذين يقاتلون إلى جانب الثوار في معركتهم ضد نظام العقيد معمر القذافي، لكن سرعان ما عملت الدوحة عبر ذراعها الإعلامية قناة الجزيرة على التقليل من مخاطر هؤلاء على مشروع التغيير في ليبيا. فبعد هذه السنوات عرف العالم حقيقة هؤلاء المقاتلين ولحساب من يعملون. في ليبيا اليوم، هناك جيش وطني يسعى جاهدا لاستعادة الدولة، حسب ما أكد قادته في أكثر من مناسبة، وفي الجانب الآخر هناك ميليشيات مسلحة إسلامية تعمل على الإبقاء على حالة الفوضى التي سادت منذ العام 2011 إلى ما لانهاية. البلد يعج بالثروات الطبيعية. النفط والغاز هما الأساسيان في معركة السيطرة على ليبيا. الميليشيات مستفيدة بشكل أساسي من عائدات النفط، وهناك تقارير دولية تشير إلى أن شركات قطرية تركية تعمل على “سرقة” هذا النفط تحت أعين الميليشيات. تلك الميليشيات تدعم تحركاتها ونفوذها عن طريق تهريب الذهب الأسود دون حسيب ولا رقيب من حكومة ضعيفة في طرابلس. منذ فبراير 2011 كانت ليبيا مسرحا لحرب السيطرة على آبار النفط. الجميع تدخل من أجل الفوز بنصيب من كعكة الحرب لصالحه. كان الهدف المعلن لقوى أجنبية هو حماية الشعب الليبي من بطش نظام القذافي، لكن ما اكتشفه الناس هناك أن الشركات الأجنبية تسابقت على أخذ نصيبها من النفط بأثمان بخسة. فتركيا وقطر، اللتان استعانتا – بعد فتوى مفتي الإخوان يوسف القرضاوي – بحلف شمال الأطلسي (الناتو) للتسريع في إسقاط نظام القذافي، كانتا أكثر دولتين حرصا على تنفيذ المخطط حيث قايضتا دولا غربية بنفط ليبيا مقابل تثبيت حكم الميليشيات. كان هناك مخطط متكامل عملت عليه الدوحة وأنقرة لغايات أيديولوجية وحسابات سياسية لها علاقة بتثبيت حكم الإسلاميين وإدامة الفوضى في البلد. بعد نحو ثماني سنوات من حكم الميليشيات، وجد قادة تيار الإسلام السياسي أنهم يخسرون معقلا مهمّا مع تقدم الجيش الليبي لإنهاء سطوة الميليشيات وإعادة بناء الدولة وفقا لمقاييس مدنية بعيدة عن حسابات أنقرة والدوحة. التقدم الميداني وخسارة معقل مهم أجبر الرئيس التركي على البحث عن أيّ وسيلة تمنع سقوط طرابلس بأيدي الجيش. لم يكن أردوغان يهتم كثيرا لأمر البلد الغارق في الفوضى، ما يهمّه هو الحفاظ على حكم الإسلاميين، إذ لا يريد تقديم مساعدة لبسط الأمن والاستقرار ولفظ كل الجماعات المتطرفة، بل هو يعرض خدماته لإرسال مرتزقته للدفاع عن آخر المعاقل الإسلامية. لا تبدو عملية استعادة طرابلس من أيدي الميليشيات سهلة، فالجيش الليبي الذي بدأ هجومه في أبريل الماضي واستطاع خلال فترة وجيزة الاقتراب من العاصمة ومحاصرتها، فضّل التريث لتجنب الخسائر في صفوف المدنيين حسب ما أعلن. لكن الإنذار الأخير الذي وجهه المشير خليفة حفتر والإعلان عن بدء “الهجوم الحاسم” نحو قلب طرابلس، أربك حسابات تيار الإسلام السياسي في ليبيا والدول الداعمة له وعلى رأسها قطر وتركيا. فأنقرة تتحرك على أكثر من صعيد من أجل إرسال قواتها نصرة للميليشيات، إذ عملت قبل ذلك على استفزاز دول الجوار الليبي عبر الاتفاقيتين الأمنية والعسكرية وترسيم الحدود البحرية. فهي تعلم أكثر من غيرها أن الدول المحيطة بليبيا وخاصة الأوروبية لن تتحرك لإيجاد مخرج للأزمة من دون استفزازها بمثل تلك الاتفاقيات المثيرة. ما يهم أردوغان، رئيس تركيا التي تعاني تحت حكمه، هو إنقاذ حكم الميليشيات من السقوط، مع معرفته جيدا أنه لن يستطيع تطبيق اتفاقياته مع حكومة الوفاق والخاصة بالحدود البحرية وفتح مواجهة مع دول مثل مصر وإسرائيل واليونان وروسيا والولايات المتحدة على “خيرات البحر المتوسط”. بلا حلفاء رغم ترويج النظام التركي أن الاتفاقية مع حكومة فايز السراج تؤثر على التوازنات الإقليمية والدولية في ظل السباق للسيطرة على مصادر الطاقة في شرق المتوسط، إلا أنها لا تخفي خطة تركية قطرية إخوانية لإيجاد مبررات التدخل العسكري في ليبيا لحماية حكم الميليشيات الإسلامية. ويتحرك الرئيس التركي داخليا عبر البرلمان لشرعنة تدخله العسكري، فيبدو حديثه عن انتظار موافقة البرلمان مبالغا فيه في ظل عدم حصوله على أيّ إجماع خارجي حول تحركاته وخاصة من دول الجوار الليبي تونس والجزائر حيث رفضتا أيّ تدخلات خارجية. فلا داعم خارجيا لتحركات أردوغان سوى النظام القطري، الذي سبق ليبيا في بناء قواعد عسكرية تركية. سيكون الاختبار الأول لأردوغان في مهمته الميدانية العسكرية في ليبيا يتمثل في كيفية إيصال جنوده إلى طرابلس في ضوء تطويقها برا وبحرا وجوا من قبل الجيش الليبي. هناك منفذ لتركيا وهو عبر تونس، لكن موقفها الأخير والوضع الداخلي فيها لا يسمح لقادتها بالمقامرة بمثل هكذا تحرك، خاصة أن السياسة الخارجية التونسية عرفت خلال السنوات الأخيرة بالحياد المعلن من طرفي النزاع في ليبيا. لا يبدو أن التهور التركي في ليبيا سيكون في صالح البلد الغارق في الفوضى، فهناك ميليشيات مسلحة متطرفة يمكنها أن تفعل ما يمكن من أجل البقاء في السلطة والتحكم في ثروات البلاد. وهناك أيضا أردوغان الباحث عن حلول لأزماته الداخلية بفتح جبهات خارجية يسهل إشعالها، لكن يصعب على أي أحد إطفاؤها.

مشاركة :