يستعرض فيلم “لوسي في السماء” للمخرج نوح هاولي تفاصيل اكتشاف المجهول البعيد في الكون الفسيح عبر رحلة لوسي (الممثلة ناتالي بورتمان)، حيث تظهر طافية في الفضاء وسط حالة تفاعلية عميقة، إذ تتغلغل تفاصيل تلك الرحلة إلى وجدانها وعقلها وعاطفتها. ولهذا سوف نعيش معها تلك الأوقات التي تمضيها وهي سابحة في الفضاء ثم وهي عائدة إلى الأرض وكيف يؤثر ذلك على شخصيتها. ما بين صورة لوسي وهي في المهمة وبين صورتها وهي على الأرض سوف نجد إشكالية سرعان ما سوف تتطور إلى تداعيات نفسية وسلوكية. هي تعيش وسط أسرتها المكونة من الزوج وابنة الأخ الشابة، وعلى الجهة الأخرى جدتها ومربيتها. الزوج المتحفظ المتدين هو مثال للحريص على الحياة الزوجية مع التذكير بالخالق وقدرته والدعاء في كل وقت. تجد لوسي نفسها بالتدريج أنها لا تنتمي إلى هذا الواقع الذي عادت إليه، ولهذا تبدأ الفجوة بينها وبين زوجها بالاتساع، بينما تتقارب مع زميلها في محطة ناسا وتقيم علاقة مضطربة وغير مستقرة معه. خلال ذلك يجري إعداد لوسي من خلال سلسلة من التجارب الصعبة لغرض الالتحاق برحلة إلى الفضاء مجددا، وهو ما لن يتحقّق بسبب قناعة وكالة ناسا بأن تحولات عاطفية ونفسية صارت تطغى على شخصيتها ممّا يستوجب خضوعها للمزيد من التدريب والإعداد. البعد الخيالي الذي يجعل من لوسي شخصية شبه منفصلة عن الواقع وترى في نفسها ما لا يراه غيرها يجعلها تعيش رحلة افتراضية كونية، إذ لا تتوقف الأوامر في أثناء الرحلة الفضائية التي تصلها، فترددها في كل مناسبة، حتى وهي في الطريق أو في المنزل. وانبنت فكرة الفيلم على قصة واقعية حول جانب من حياة رائدة الفضاء الأميركية ليزا نواك مع مرونة في الخروج من إطار تلك الشخصية الحقيقية، ما عدا بعض المقاربات التي تتعلق بتحوّل رائدة الفضاء بسبب التجربة العاطفية ودوافع الغيرة إلى الانتقام. هنا لا تجد لوسي حلا للخروج من أزمتها، ولاسيما بعد أن تكتشف أن صديقها الذي تعاشره هو الذي رفع تقريرا أوصى فيه بعدم إرسالها في رحلة فضائية جديدة. علاقة إشكالية مركبة بين لوسي وصديقها المفضل مارك (الممثل جون هام)، وكلاهما رائد فضاء، وهما يتشاركان في تلك التحوّلات النفسية والجسدية في ما قبل انطلاق المركبة الفضائية وخلال المهمة في الفضاء وما بعد إتمام المهمة والعودة إلى الأرض. واقعيا تتحوّل تلك المهمة برمتها إلى هاجس يومي بالنسبة إلى لوسي، ولهذا سوف تظهر في شكل اضطرابات سلوكية وانفلات في المشاعر حتى بدت شخصية سيكوباثية بامتياز. تتمرد فجأة على الزوج وتتحاشى وجوده في حياتها، تصطحب ابنة أخيها إلى المجهول، تعاني من فقد مربيتها وهي جدتها، كل ذلك يتراكم، فيما لوسي تخضع للتدريب الفضائي من جهة والمواعيد الغرامية الهلامية مع صديقها التي تنتهي بها إلى محاولة قتل صديقها بدافع الغيرة والانتقام. من هناك سعى المخرج ومعه فريق السيناريو إلى الخروج عن إطار القصة الحقيقية التي لم تتعدّ كونها علاقة عاطفية أفضت إلى جريمة تداولتها وسائل الإعلام بإطناب، لإنجاز عمل سينمائي يجمع بين العاطفة والخيال العلمي. في المقابل، تتسع القصة التي تعيشها لوسي في حياتها اليومية إلى فهم ذلك العالم المجهول الذي أبحرت فيه، حيث تجد نفسها أسيرة البدلة الضخمة والزجاجة التي لا تحتجز رأسها فحسب، بل أنفاسها وأفكارها وعيونها التي تراقب كل شيء. وعلى هذا النحو، سوف يبني المخرج القصة في إطار نفسي وفانتازي لا تلبث أن تتسع بتفجّر شخصية لوسي وضربها لكل ما حولها للتعبير عن دوافعها وأهدافها ومشاعرها هي دون الآخرين. مزج الفيلم في بنائه الدرامي ما بين الفانتازيا والخيال العلمي والدراما النفسية في خليط أراد من خلاله المخرج الاستفادة من السيرة الحقيقية لرائدة الفضاء، ثم الخروج عنها من خلال خطوط نفسية وعاطفية مُتشابكة. وعلى مدى قرابة الساعتين من الزمن أمتعت لوسي مشاهديها بشخصيتها المتقلبة وشراستها وأفكارها المشوشة، ثم وهي تخوض تلك الرحلة عبر الفضاء بجميع تداعياتها. إنتاجيا تم إنفاق 27 مليون دولار على هذا الفيلم ليحقق أكثر من 300 مليون، وفي هذا كان التوسع الإنتاجي سواء في صالات تدريب رواد الفضاء أو في مشاهد الفضاء قد تمت معالجتها بمهارة وحرفية وبدرجة من الإقناع، علما أن الأحداث تقع في تسعينات القرن الماضي وذلك ما نلمسه من خلال الملابس والعديد من الإكسسوارات. مساحة المغامرة هي التي ارتكز عليها فيلم “لوسي في السماء” في تقديم قصة مرتبطة بالواقع من جهة، وفيها الكثير من الغرائبية والفانتازيا من جهة أخرى، وهي موازنة دقيقة حاول المخرج الحفاظ عليها مع أن الإيقاع الفيلمي لم يكن على نسق واحد، وهو من الثغرات التي تؤخذ على هذا الفيلم.
مشاركة :