العظماء شأن المهاتما غاندي تظل صورتهم محفورة في الوجدان لا تبهت بتقادم الزمان. والهند وهي تودع العام الجاري الذي خصصته للاحتفال بالذكرى الـ 150 لميلاده، ستظل تتذكر بالفخر والإجلال مَنْ استطاع أن يحول ضعف شعبه أمام جبروت المستعمر إلى قوة متدفقة، وتتذكر أيضا القيم النبيلة التي جسدها بزهده وتقشفه وتواضعه وتسامحه وانفتاحه وصبره، والتي استطاع عبرها تعرية المستعمر وإحراجه أمام ضمائر العالم. تلك القيم والأساليب التي تستحق منا العودة إليها اليوم وتأملها، خصوصًا مع استشراء العنف في عالمنا العربي بصورة غير مسبوقة. انتهز الأستاذ عبدالنبي الشعلة وزير العمل والشؤون الاجتماعية البحريني الأسبق المناسبة فدشن كتابًا من تأليفه يُعد أول مؤلف عربي يتناول انشغال المهاتما بالقضايا العربية والاسلامية، ويسلط أيضًا الأضواء على حياة وأفكار الرجل الذي لقبه شاعر الهند الأكبر طاغور بـ«المهاتما»، وهي مفردة سنسكريتية تعني «الروح العظيمة»، فيما سماه آخرون «بابو» أي (الأب) باللغة الغوجراتية كناية عن أنه بمثابة «أبو الأمة الهندية». كما قام المترجم المصري د. أحمد صلاح الدين بترجمة كتاب من الروسية عنوانه «دولة الحب.. مراسلات تولستوي وغاندي». وافتتحت وزارة الثقافة وتنمية المعرفة الإماراتية متحف «زايد / غاندي» في أبوظبي، بالتزامن مع إعلان الإمارات سنة 2019 عامًا للتسامح. الكثيرون منا يقترن عندهم اسم غاندي بالمقاومة اللاعنفية فحسب، رغم أن سيرته مليئة بجوانب مضيئة أخرى. بل إنهم حتى من هذه الزاوية بالغة الأهمية لعالم عربي لا تختلف أوضاعه الراهنة كثيرًا عما كانت عليه أوضاع الهند في بدايات القرن المنصرم لجهة العجز والإحباط،، يجهلون أو يتجاهلون الأسس الفلسفية لحركته وما تميزت به من خصائص فريدة. استسلم لقناعة مفادها أنَّ العنف إنْ بدأ فلن يتوقف كانت الهند في بدايات القرن 20، كما وصفها تلميذه «نهرو»، «مجتمعًا بالغ اليأس والإحباط، وشعبًا لا يملك قوت يومه، وبلدًا يتحكم الأجنبي في مفاصله وثرواته». واستمر هذا الوضع طويلاً إلى أن بزغ نجم غاندي العائد إلى وطنه من جنوب إفريقيا وهو مسلح بقراءات فلسفية متعمقة حول العمل الجماعي، وكيفية الرد على استفزازات الخصم وعنفه في مجتمع لا طاقة له على تحمل ردود الأفعال العنيفة، معطوفة على تجربة عملية فريدة في مقاومة التمييز العنصري وحياة العبودية. ولئن بدأ غاندي مشواره في الهند بمحاولات إقناع المستعمر بالإصلاح واستثارة ما كان يطبقه في بلده من قيم العدالة والديمقراطية، فإنه سرعان ما اكتشف أنّ الحوار والصبر لا فائدة منهما، لاسيما بعد مذبحة «جاليان والا باغ» التي حصد فيها المستعمر أرواح 1300 مواطن أعزل كانوا يحتفلون بعيد رأس السنة الهندوسية. كان بإمكانه وقتذاك أن يستغل موجة السخط المتولدة من تلك الحادثة في تقمص دور الزعيم الثوري، ودعوة شعبه إلى حمل السلاح وسفك الدماء ومقابلة العنف بالعنف، وفق مبدأ العين بالعين والسن بالسن، وأن يُغرق وطنه بالتالي في حمام من الدم والتدمير والفوضى يكون ضحاياه بالدرجة الأولى هم مواطنوه الفقراء، على اعتبار أن كفة الخصم كانت هي الراجحة. غير أنه أبى أن ينساق وراء العواطف، مفضلاً الاستسلام لقناعة مفادها أنّ العنف إنْ بدأ فلن يتوقف، وإنْ توقف في النهاية فسوف يخلف وراءه ثقافة مجتمعية عنيفة وجدارًا منيعًا من الأحقاد ونوازع الانتقام. وهكذا قام غاندي بتسويق فكرة «الساتياغراها» المعتمدة على التزاوج ما بين الحقيقة (ساتيا) والحب (غراها)، كمرادفين للقوة. ومن هذه الفكرة استنبط مبدأ المقاومة اللاعنفية، باذرًا بذلك البذرة الأولى لحركة شعبية جماهيرية سوف تتوسع وينحني لها العالم احترامًا. كان على غاندي قبل أن يطلب من مواطنيه التحرك، أن يحررهم أولاً من الخوف، سواء الخوف من أجهزة المستعمر القمعية أو الخوف على النفس ولقمة العيش. كما كان عليه أن يحرر طاقات نساء الهند من خوف التمرد على التقاليد البالية المقيدة لخروجهن إلى الحقول والمعامل والشارع. وقد نجح في ذلك عبر إشعار مواطنيه بأن كرامتهم مداسة وحقوقهم مستباحة وثقافتهم مهانة، مكررًا على مسامعهم «إن الإنجليز موجودون هنا ليس بسبب قوتهم، وإنما بسبب ضعفنا وخوفنا وتشتتنا». وما إنْ تحقق له ذلك حتى طالب شعبه بالانتقال إلى المرحلة التالية وهي العصيان المدني ومقاطعة مؤسسات المحتل وبضائعه، والاعتماد على الذات في كل شيء كبديل. وقتها شكك الكثيرون من رفاقه بجدوى هذا العمل الذي وصفه رفيقه في النضال مؤسس الكيان الباكستاني لاحقًا «محمد علي جناح» بـ(الطائش والصبياني). لكنهم سرعان ما غيروا موقفهم، ولاسيما بعد نجاحه في عام 1930 في قيادة مسيرة جماهيرية لـ 24 يوما إلى ساحل البحر في «داندي» من أجل التقاط الملح وتحدي القانون الذي سلب المواطن الهندي حق صنع الملح لنفسه من بحار وطنه.
مشاركة :