تدخل تونس بحلول عام 2020، مرحلة جديدة ستكون مفصلية ومغايرة لما عرفته البلاد من دعم دولي كان يمن بسخاء على مختلف الحكومات المتعاقبة منذ عام 2011 بالقروض والهبات على قاعدة دعم الانتقال الديمقراطي. نجحت تونس رغم اختلاف التقييمات بشأن تجربتها في تكريس الأدنى المطلوب لتحصين ديمقراطيتها الفتية، لكن حكومتها القادمة ستصطدم بواقع قائم على أساس “لكل شيء ثمن”، حيث سيكون على عاتقها البدء في تسديد جزء كبير من الديون الخارجية والداخلية المتراكمة منذ ما قبل ثورة 2011 وما بعدها. إن الحديث عن هذه المطبات لا يعد من قبيل الجديد، بل إن مرده ارتفاع أصوات خبراء الاقتصاد في السنوات الأخيرة المحذرة من مجيء هذه اللحظة التي ستزيد في خنق الاقتصاد التونسي، كما أملاه ارتفاع نسق المطالبة بوجوب تشكيل الحكومة الجديدة التي كلفت حركة النهضة الإسلامية الحبيب الجملي بتشكيلها في أسرع وقت للانكباب على ما ينتظر البلد من التزامات لا تحتمل التأجيل. تشير أرقام قدّمها أكثر من خبير اقتصادي إلى أن تونس تحصّلت منذ اندلاع ثورة يناير 2011 على ما يقارب 100 مليار تونسي في شكل هبات وقروض من قبل العديد من الجهات وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومن جهات أخرى بمبالغ وفوائد متفاوتة منها البنك الأفريقي للتنمية وكذلك بعض الدول العربية والدول الأوروبية الصديقة. ويقر خبراء الاقتصاد في تونس بأن قدرة تونس على الإيفاء بالتزاماتها المالية الخارجية أصبحت محل شك، مؤكدين أن التعثر في سداد الديون سيدخل البلد في دوامة ما يسمى إعادة جدولة الديون وأنه سيفقدها أهم مكسب على المستوى المالي الدولي المتمثل في أنها لم تتأخر في السابق يوما واحدا منذ الاستقلال عن المستعمر الفرنسي في الإيفاء بالتزاماتها الدولية. تداعيات الأزمة السياسية بالتزامن مع الأزمة السياسية المستفحلة التي تعيش على وقعها تونس حتى وإن نجح الحبيب الجملي في الإعلان عن تركيبة حكومته بما أنه يتوجب عليها أن تحصل على ثقة البرلمان، أطلقت صافرات الإنذار التي دقت ناقوس الخطر خاصة بعدما علّق صندوق النقد الدولي في أواخر شهر ديسمبر صرف مبلغ 1.2 مليار دولار لتونس ضمن الدفعتين السادسة والسابعة من قرض كامل متفق عليه منذ عام 2016 شريطة استكمال الإصلاحات المطلوبة. وبرر صندوق النقد الدولي هذه الخطوة بعدم قيام الدولة التونسية بالإصلاحات المطلوبة المتفق عليها، بحسب ما صرح به ممثل صندوق النقد الدولي في تونس جيروم فاشير. وأكّد الخبير الاقتصادي راضي المؤدب في هذا الصدد أن عام 2020 سيكون أصعب من السنوات الماضية باعتبار أن كل المؤشرات الاقتصادية والمالية لا تبشر بخير وأن الوضع السياسي متأزم وأن ما زاد في عدم ثقة الداعمين الخارجيين هو عدم النجاح في تشكيل حكومة جديدة رغم مرور 3 أشهر على الانتخابات. وأوضح المؤدب في تصريح صحافي لإذاعة محلية أن مرد صعوبة سنة 2020 أنها ستكون أول سنة تدخل فيها تونس مرحلة جديدة لم تعهدها من قبل بما أنها تمثل أول سنة تسدد فيها ديونا أكثر مما ستقترض. وقال المتحدث إن “تونس سوف تسدد 12 مليار دينار كخدمة للدين بينما ستقترض 11.7 مليار دينار فقط وهو ما يعني أن ما ستقترضه لن يخصص للاستثمار وإنجاز المشاريع وإنما لن يكفي حتى لتسديد الدين”، معتبرا أن ذلك يمثل إشكالية كبرى وتغيّرا نوعيا لم تشهده البلاد في السابق. ويطرح هذا المأزق إشكالية أعمق بكثير يجمع عليها جل الخبراء تقريبا وتتمثل في أن تونس تدخل العام الجديد دون أن تضمن أي بداية وعود لتعبئة الموارد الخارجية التي تحتاجها والمقدرة بقرابة 12 مليار دينار خاصة في ظل رفض صندوق النقد الدولي تسريح بقية القرض الذي تحصلت عليه البلاد عام 2016 (1.2 مليار دولار) أي ما يمثل تقريبا 4 مليارات دينار. وأكد هذا التصور الخبير الاقتصادي عزالدين سعيدان، الاثنين، بقوله إن “عام 2019 كان صعبا على جميع المستويات بالنسبة للبلاد التونسية خاصة في ما يتعلّق بالدين الخارجي الذي تفاقم بشكل كبير مما يجعل من التحديات القادمة صعبة جدا”. وتحدث سعيدان في تصريحات إعلامية عن الأولويات الاقتصادية لعام 2020، قائلا إنها تتمثل في الأمن الشامل والتحدي الاقتصادي المالي وإن المؤشرات الحالية تفيد بأن التحديات ستكون في 2020 تحديات مالية قوية جدا. ضرورة التشخيص التوافقي طالب في هذا الصدد بوجوب القيام بتدخل سريع لإنقاذ الاقتصاد عبر برنامج إصلاح هيكلي، قائلا “لا بد لرئيس الجمهورية قيس سعيد أن يدعو جميع الأطراف والقيام بتشخيص كامل توافقي وجدي للأوضاع ثم الانطلاق في عملية إصلاح شامل”. وشدد سعيدان في سياق متصل على ضرورة إعادة النظر في ميزانية 2020، التي لا تعكس أي سياسة، بحسب تعبيره، قائلا إن “التحديات المطروحة أمام الحكومة الجديدة تكمن في مراجعة الميزانية وطرح مشروع ميزانية جديد على البرلمان يعكس سياستها التي يجب أن تتضمن برنامج إنقاذ اقتصادي ومالي”. وتطرح مسألة سداد الديون المتراكمة منذ ما قبل 2011 إلى حدود 2019، أزمة أخرى تتعلق بانسداد أفق الحصول على قروض جديدة من السوق المالية الدولية، لكن مؤسسات الدولة خففت من حدة التخوفات معتبرة أنها بصدد البحث عن بدائل على قاعدة برامج جديدة سيتم النظر فيها مع الجهات المالية المانحة كصندوق النقد الدولي وكذلك البنك العالمي. وكان محافظ البنك المركزي التونسي مروان العباسي قد قال في تعليقه على قرار صندوق النقد الدولي بخصوص منح ما تبقى من القرض المتفق عليه منذ عام 2016، إن “تونس تمكنت من إنجاز عديد الإصلاحات المتفق عليها وأخرى لم تتم بعد”. وشدد العباسي على أن تونس وصندوق النقد الدولي سيشرعان في الفترة القادمة في مناقشة برنامج جديد، مبرزا أن كل النقاط والأهداف واضحة بالنسبة إلى وزارة المالية والبنك المركزي، مؤكدا على أنه ليس هناك أي إشكال في علاقة بالمقاييس النوعية المطالبة بها تونس. وإلى أن يقوم وفد من صندوق النقد الدولي بزيارة جديدة ستكون عقب تشكيل الحكومة الجديدة للتفاوض على الإصلاحات التي يجب أن تستكملها تونس، أثيرت مرة أخرى في الشارع التونسي الكثير من الأسئلة بشأن مآل كل القروض والهبات التي تحصّلت عليها الحكومات بعد الثورة خاصة أن جل التقارير تقر بأن عامي 2020 و2021 سيكونان الأصعب على جميع المستويات. وقد أكد تقرير صادر عن دائرة المحاسبات (محكمة مالية) في شهر مارس الماضي أن تونس ستكون بحلول 2020 و2021 مطالبة بسداد ديون 123 قرضا خارجيا حصلت عليها ما بين 2012 و2016. وقدر التقرير المذكور قيمة سداد هذه القروض بألف مليون دولار سنويا، متسائلا عن مدى جهوزية قانون الموازنة لعام 2020 لتحدي هذه المصاعب خاصة أن كل المؤشرات الاقتصادية والوضعية المالية المتدهورة لم تشهد أي تحسّن يجعل البلد قادرا على تخطي هذا الامتحان الصعب الجديد.
مشاركة :