بين الباحثون أن متلازمة توريت، التي تحمل اسم الطبيب الفرنسي “جورج جيل دو لا توريت”، هي مرض نفسي وعصبي يظهر منذ الطفولة المبكرة. وأوضحت البروفيسورة كيرستين مولر- فال، مديرة أكبر عيادة لعلاج حالات متلازمة توريت في ألمانيا، أن هذا المرض له سبب عضوي، حيث يطرأ تغيير على أيض الدماغ بسبب تعطل التواصل بين مراكز المخ المختلفة. وليس من المعلوم حتى الآن سبب هذا التغيير، ولكن يرجح الأطباء أنه يرجع إلى فرط النشاط في نظام الدوبامين، علما بأن التوتر النفسي يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الأعراض. والدوبامين هي مادّة عضوية تلعب دور هرمون وناقل عصبي، ولها تأثيرات عديدة على الدماغ بشكل خاص، وعلى جسم الإنسان بشكل عامّ. وتقوم الخلايا العصبية في الدماغ بإفراز الدوبامين، وذلك ضمن مسارات يلعب أحدها دورا محوريا أساسيا في العامل التحفيزي في نظام المكافأة في الدماغ، إذ أنّ توقّع المكافآت يزيد من مستويات الدوبامين في الدماغ. ومن جهة أخرى، تقوم العقاقير نفسانية التأثير والمسبّبة للإدمان إمّا بزيادة إفراز الدوبامين وإما بالعمل على حجب استرداد الخلايا العصبية لهذه المادّة بعد إفرازها. تساهم المسارات الدوبامينية أيضا في التأثير على الجهاز الحركي وفي التحكّم بإفراز هرمونات أخرى. ويترافق نقص الدوبامين أو حدوث خلل في النظام الدوباميني مع حدوث عدد من أمراض الجهاز العصبي. أوضحت مولر- فال أن أعراض متلازمة توريت تتمثل في أفعال حركية أو صوتية لا إرادية ولا يمكن السيطرة عليها. وتتمثل الأفعال الحركية اللا إرادية في رمش العين وهز الرأس أو هز الأكتاف والمشي بنمط معين وحركات الفم الغريبة، بينما تتمثل الأفعال الصوتية اللا إرادية في تطهير الحلق باستمرار وتكرار كلمات وعبارات الآخرين وترديد ألفاظ نابية. ولا ينطبق التفوه بألفاظ بذيئة إلا على عدد قليل جدا من المرضى. وغالبا ما تكون هذه الأفعال اللا إرادية مسبوقة بإحساس جسدي غير مريح مثل الحكة أو الوخز. العلاج السلوكي يدرب المريض على كيفية التعامل مع الأفعال اللاإرادية الحركية والصوتية ومحاولة السيطرة عليها ويقول البروفيسور فيت روسنر، مدير العيادة النفسية للأطفال والمراهقين بالمستشفى الجامعي في دريسدن شرقي ألمانيا، “التشنجات اللا إرادية هي عبارة عن تقلصات عضلية تتكرر بشكل متقطع وغير منتظم. وتتمثل التشنجات اللا إرادية في صدور حركات أو أصوات لا إرادية، لذا يمكن تقسيمها إلى تشنجات حركية وتشنجات صوتية. إلا أن هناك بعض المرضى الذين يعانون من كلا النوعين في آن واحد”. وفي الحالات التي تستمر لديها أعراض التشنجات اللا إرادية لأكثر من سنة، تنتقل التشنجات من الوجه لتصيب الأطراف، ومن ثم تصبح أكثر خطورة. وعلى الرغم من أن هذه التقلصات غالبا ما تتباطأ، غير أنها تصيب في الغالب المزيد من عضلات الجسم. ويوضح يورغن فيلد، من رابطة أخصائي علم النفس الألمان بالعاصمة برلين، أن الضغط العصبي يمكن أن يتسبب في زيادة حدة التشنجات اللا إرادية. وأشار إلى أن الدراسات العلمية لم تتوصل حتى الآن إلى سبب محدد لحدوث هذه التشنجات. وبشكل عام يمكن أن يتعرض أي شخص للإصابة بالتشنجات اللا إرادية، غير أن احتمال الإصابة يكون واردا في سن الطفولة أكثر من سن البلوغ. ومن جانبه لفت البروفيسور أولريش فودرهولتسر إلى أن متلازمة توريت تمثل عائقا كبيرا يمنع المريض من ممارسة حياته بشكل طبيعي، حيث يتعذر عليه قيادة السيارة مثلا، كما أنه قد يواجه صعوبات كبيرة في المسار التعليمي وفي العثور على وظيفة. وأضاف طبيب الأمراض النفسية والعصبية الألماني أن هذه المتلازمة ترفع خطر الإصابة بأمراض نفسية أخرى كالاكتئاب. ولفت إلى أنه لا يمكن الشفاء منها، وأكد، كبقية الأطباء، أنه يمكن تخفيف متاعبها من خلال العلاج السلوكي، حيث يتعلم المريض كيفية التعامل مع الأفعال اللا إرادية الحركية والصوتية ومحاولة السيطرة عليها. وتبعا لشدة المرض يمكن أيضا اللجوء إلى العلاج الدوائي مثل الأدوية المحتوية على “كانابيديول”. وتقول كارمن غريغر، من رابطة مساعدة مرضى التشنجات اللا إرادية ومتلازمة توريت بمدينة بريمن شمال ألمانيا، “في بعض الأسر يرجع سبب حدوث التشنجات إلى الاستعداد الوراثي”. ولقد أثبتت الدراسات الجينية أن الغالبية العظمى من حالات متلازمة توريت هي حالات وراثية، على الرغم من أن الجين المسؤول عن الإصابة لم يعرف بعد. ويعتقد منذ وقت طويل أن معظم اضطرابات الحركة تنتقل وراثيا عبر الجين السائد، ولكن البحوث التي أجريت مؤخرا تعتقد بعكس فرضية الجين السائد وتؤكد إمكانية ارتباط جينات متعددة أخرى. وفقا لروجر فريمان “الجينات التي تسبب متلازمة الحركات اللا إرادية المتكررة لم يتم تحديدها بعد، بل من المستبعد جدا أن يوجد هناك جين واحد فقط مسؤول عن الإصابة وانتقال التشنجات الحركية اللا إرادية بين الأجيال”. وفي بعض الحالات، قد لا تنتقل حالات التشنجات اللا إرادية الحركية وراثيا ويتم تحديد هذه الحالات بأنها “متفرقة” (المعروفة أيضا باسم توريتزم) بسبب عدم وجود صلة وراثية معروفة عند الإصابة. وتجدر الإشارة إلى أن الشخص المصاب بمتلازمة توريت تزيد فرصة تمرير جيناته المصابة إلى واحد من أطفاله بنسبة تقدر بـ50 بالمئة. يقول الدكتور ينس كون، الأستاذ بالمستشفى الجامعي في مدينة كولونيا، نقلا عن موقع دويتشه فيله الألماني، إن الخيار الأول لعلاج المصابين بمتلازمة “توريت” يتمثل في تناول أدوية مضادة للذهان. وهي عبارة عن عناصر تؤثر على مادة الدوبامين الكيميائية أو تعطل مستقبلاتها. وعند وجود اضطرابات شديدة لدى المصابين به من البالغين يمكن إجراء عملية تنبيه عميقة للدماغ. وهذا إجراء معروف منذ 30 عاما تقريبا وطور لاستخدامه في علاج مرض الباركنسون. وعند استخدام هذه الطريقة يجري زرع منظم في الدماغ لتنظيم عمله، يشبه منظم ضربات القلب الذي يزرع في الصدر. ويساعد هذا المنظم ضد الرعشة في حالة الباركنسون وضد التشنجات في حالة متلازمة توريت. وتوضح الدكتورة كيرستن موللر- فال، الأستاذة بكلية الطب بهانوفر، أن التقديرات “تشير إلى أن 10 في المئة – ويقول البعض 15 في المئة – من جميع الأطفال في المدارس الابتدائية يتعرضون لتشنجات خفيفة مؤقتة”، لكن ذلك لا يعني وجود مرض خطير. فلتشخيص متلازمة توريت لا بد من وجود صوت واحد على الأقل وحركتي تشنج لا إراديتين، تتكرر على مدار عام تقريبا. وتقدر موللر- فال نسبة الأطفال المصابين بمتلازمة توريت في ألمانيا بحوالي 0.7 و حتى 1 في المئة من بين كافة الأطفال والشبان الموجودين فيها. أما النسبة على مستوى العالم فلا توجد بشأنها سوى معلومات تقريبية. وتضيف الأستاذة بكلية الطب بهانوفر “أعتقد بصفة عامة أن متلازمة توريت منتشرة في كافة أنحاء العالم، وبنسبة متشابهة، وتكمن المشكلة في عدم وجود دراسات من كل الدول والبلدان”.
مشاركة :