النعم التي في الدنيا إذا شكرت زادها الله وبارك فيها، وليس محرماً البتة التنعم بها ومنها وفيها، طالما كانت من مصدر حلال ووضعت في موضع حلال. والمرء يسأل يوم القيامة عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ كنت قد سطرت مقالاً سابقاً في هذه الجريدة عنونته بجزء من الحديث المعروف: "لهم الدنيا ولنا الآخرة". وها أنا ذا أعيد الكلام عن الفكرة بأسلوب آخر لأهميتها، وحاجتنا الماسة إلى التفكير في هذا الشأن بكل حرص وعناية. إن كثيراً من المفاهيم الخاطئة تقود الأمة إلى الهلاك، وتضعف قوتها، وتجعلها رهينة لأعدائها، لا ترجو من أغلال استعمارهم الفكري، والمادي، وسيطرتهم الاقتصادية فكاكاً. ومن أبرز هذه المفاهيم، ما سيطر على عقول بعض المنتسبين إلى السلف من ذم الدنيا، وتزهيد الناس فيها، وتغليب ذلك النمط من الحديث في المجالس والخطب والدروس والتآليف، والحث على العمل للآخرة، والآخرة فحسب. وهذا في أصله صحيح، لكنه ليس صحيحاً مطلقاً؛ لأن الإطلاق ينافي الفطرة ويعارض تركيبة الإنسان، فإن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفنا فيها فينظر ما نحن عاملون. وهذا معنى قول حبيبنا صلى الله عليه وآله وسلم. ولم أر في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ما يذم الدنيا لذاتها، بل الذم منصب على الاغترار بها، والركون إليها، والغفلة المصاحبة لذلك عن الدار الآخرة، دار القرار، وإن الدنيا بذاتها لا يمكن العيش فيها من دون متاعها الجميل الذي امتن الله به في آيات كثيرة جداً على عباده، بل حتى في ما يزينها، ويكون من متاعها الجميل، واقرأ إن شئت سورة النحل لترى تعدد نعمة الله علينا بما سخر لنا من الدنيا، فإنه قد أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وذكر منها كثيراً في تلك السورة. ومن تلك النعم: (ولكم فيها جمال حين تريحون، وحين تسرحون) ومنها: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها، وزينة) واجعل تحت (زينة) أكثر من خط. ومنها: (لتأكلوا منه لحماً طرياً) أي: من البحر، فالسمك ذو اللحم الطري نعمة وأي نعمة. ونص على التزين في قوله: (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها). ومنها جعل البيوت سكناً، وتنوع استخدام جلود الأنعام بيوتاً وأثاثاً ومتاعاً إلى حين. والمستخلص من ذلك أن النعم التي في الدنيا إذا شكرت زادها الله وبارك فيها، وليس محرماً البتة التنعم بها ومنها وفيها، طالما كانت من مصدر حلال ووضعت في موضع حلال. والمرء يسأل يوم القيامة عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ ولا يسأل عن قدره، فقد يكون قليلاً جداً، وقد يكون كثيراً لا يحصى. فإن كان جواب من أين حلالاً فلا إثم عليه، وإن كان الإنفاق في حلال فلا إثم عليه، مهما كثر ماله وزاد. أردت من هذه المقدمة التي اضطررت إليها أن أدخل إلى الأهم في الموضوع، وهو اعتقاد كثيرين - إن لم يكن كلهم - أن الدنيا لا ينبغي أن نهتم بها ولا نسعى في بنيانها، ومرد ذلك هو المفهوم الخاطئ في ذمها، والتزهيد فيها التي انتشرت فكرتها عبر كتب الزهد وأحوال الزاهدين، والخلط بين الزهد الشخصي الذي يختاره العابد لحاله، وبين الحال العام للأمة والنظام التكاملي للناس على مختلف شرائحهم. وهذا في ظني ما أخر المسلمين قروناً عن أعدائهم، وجعلهم في آخر الركب يتسابقون على ما يلقيه أولئك الأعداء عليهم من تقنية ومخترعات فيستخدمها المسلمون في الدعوة والإرشاد وحفظ السنة والكتاب، وطباعة كتب الزهد والتحذير من الدنيا! وغفل المسلمون في هذه الوريقات عن قوله تعالى: (واستعمركم فيها) وتاريخ هذه الأمة يشهد بأن السلف لم يفهموا من النصوص ترك الدنيا، والانشغال عنها كليًا بالآخرة، فهذا مذموم قطعاً في دين الإسلام: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم). ونهى صلى الله عليه وآله وسلم عن التبتل. ولما أخبره أحد الصحابة أنه منقطع للعبادة وله أخ ينفق عليه أخبره أن أخاه أفضل منه. وفضل الدرهم الذي ينفقه المسلم على عياله على درهم يتصدق به أو ينفقه في سبيل الله. ولا شك أن الدرهم الذي ينفق على الأهل عادة يكون في مأكلهم وملبسهم وشؤون حياتهم. وقد يكون في متعتهم وانبساطهم. وفي الحديث: "ذهب أهل الدثور بالأجور". وكيف يأتي المال بلا عمل وجد وسعي في الكسب وتفنن في الإدارة، وما أشبه ذلك. وعلى ما سبق فإن من ذهب إلى بلاد (الكفر) سيعجب من صناعتهم للحياة، ومن وأدنا لها! سيعجب من حسن تنظيمهم، وحسن إدارتهم، واهتمامهم بالآدمي، رعاية، وعناية، وصيانة، جعل منهم أمة حريصة جداً على تطبيق الأنظمة، على الصغير والكبير. وجعل منهم أمة حقوقية، تعرف حد حرية الإنسان، بما لا يتجاوز حدوده، وتعطي المرء حصانة من الظلم، وتقف معه في حال ظلمه، كما فعل المشركون الأوائل في حلف الفضول. إننا نرى فيهم إسلامنا المفقود بيننا، الذي نباهي بكل تشريعاته النظرية، ونخالفها تماماً في التطبيق، فالسارق الشريف عندنا له مكانته وتقديره، والضعيف أعانه الله على قسوتنا وتعاوننا على إقامة الحد عليه! إن كثيراً من المسلمين يعيش في بلاد الإسلام بجسده، بَيْدَ أن روحه معلقة بحضارة أعداء الأمة؛ لما يرى ما هم عليه من احترام للحياة والإنسان، وإن اختلفنا على أشياء لا يقرها الشرع مما يعملون، إلا أنه لا وجه للمقارنة بين احترامهم لدنياهم، وتضييعنا لديننا ودنيانا، ولا عجب أن تجد أكثر الناس معترفاً بهذه الكبوة التي أزرت بالأمة، وإنما العجب أن تجد ممن يعوّل الناس عليهم في الاقتداء ويسلكون سبيلهم في المعرفة تجدهم يسمون الجهل علماً، والعجز زهداً، ولعله كما قيل: كَم أُناسٍ أَظهَروا الزُهدَ لَنا فَتَجافَوا عَن حَلالٍ وَحَرامِ قَلَّلوا الأَكلَ وَأَبدَوا وَرَعاً وَاِجتِهاداً في صِيامٍ وَقِيامِ ثُمَّ لَمّا أَمكَنَتهُم فُرصَةٌ أَكَلوا أَكلَ الحَزانى في الظَلامِ
مشاركة :