سعت جماعة الإخوان المسلمين منذ ولادتها إلى تجاوز طابعها المحلي، وأن تكون ذات صبغة عالمية. نشأت في مصر منذ حوالي تسعة عقود. انتشرت وتشعبت وتطورت خارجها. حرصت على أن تكون العلاقة بين المركز والأطراف شاملة وتكاملية. لم تخل من نواحي صراعية أو تنافسية أحيانا، لكنها تدور حول آليات تطوير الفكرة الإسلامية. في كل المواجهات الساخنة والباردة التي خاضتها مع أنظمة مختلفة، كانت تجد لها حواضن عربية مؤقتة، تمتد أو تقصر مدتها حسب طبيعة العلاقة مع القاهرة. وفي النهاية تظل مؤقتة وغير مأمونة العواقب، لأنها تقوم على تبادل المنافع السياسية وليس تكامل المصالح الإيديولوجية، ما جعلها دائما واهية. استقرت بعض قيادات الإخوان في دول غربية عدة بذريعة الانتماء لجماعة "معتدلة"، واستفاد هؤلاء من أجواء الديمقراطية التي تخيم على الدول الأوروبية التي لجأوا إليها. توغلوا في المجتمعات، وتغلغلوا في صفوف قطاعات من البسطاء. كل ذلك تم بحجج دينية وسياسية مختلفة، لجذب التعاطف والحصول على مساحة للحركة للتجنيد والاستقطاب. المكان الوحيد الذي احتضن الإخوان وتفاعل معهم وتناغم مع خطابهم، هو تركيا. حتى قطر التي تبدي دعما وتعاونا مع الجماعة والحركات المتشددة لم يظهر ذلك بوضوح في مواقفها السياسية، أو تظهر ذلك على خجل، وتتكفل وسائل إعلامها باستكمال الدور المعلن في إطار توجه رسمي يحرص على مداراة نسبية في العلاقة معهم، بعكس الخطاب الرسمي في أنقرة. استقبلت تركيا المئات من قيادات وكوادر الإخوان، من مصر وليبيا والسودان وتونس وسوريا، وغيرهم. وقدمت الدعم المعنوي والمادي الوفيرين. ولم تضن قيادتها السياسية عن منح الكثير منهم الجنسية كنوع من الحماية القانونية بعد تضخم لوائح المطلوبين منهم على ذمة قضايا إرهاب. الأمر الذي يكشف نوعية القيادات التي تقيم في تركيا. ما يجمع بين الرئيس رجب طيب أردوغان والإخوان، يتداخل فيه السياسي مع الاقتصادي مع الانتهازي. خلطة واسعة من المصالح المطاطة، وجد فيها كل طرف الكثير مما يبحث عنه في الآخر. أنقرة في عهد أردوغان لديها طموحات واسعة للقيام بدور إقليمي مؤثر، وتريد القبض على زمام بعض الأوراق المحورية في المنطقة، ووجدت في هذه الجماعة الرافعة التي تمكنها من دخول دول عصت على اختراقها سنوات طويلة. قدمت الدعم السياسي والإعلامي والاقتصادي. وأصبحت اسطنبول المقر الرئيسي للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، بعد تململ بريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية التي ظلت لفترة مقرا لكثير من أعضائه، ومستوعبة حكوماتها لتنقلاتهم، في ظل انتقادات متنامية للإخوان، كمنبع لجميع الحركات المتشددة. ولم تتردد بعض مراكز الملعومات والأبحاث الرسمية والمستقلة في إثبات هذا المحدد بالأدلة. تمكن أردوغان بفعل التطورات المتسارعة أن يمتضي حصان التنظيم الإخواني، ويصبح في وضع المسيطر عليه والمتحكم في تصوراته وفقا لحساباته وليس وفقا لتقديرات الجماعة التي تقزمت كثيرا أمام جموحه، حيث يريد أن يحقق أهدافه من خلال مقدمات لها حضور متفاوت على الأرض، عنوانها جماعة الإخوان، وشعارها "الضرورات تبيح المحظورات". وأخفت دوما سعيها إلى السلطة، ولم تظهره صراحة إلا مع بزوغ نجم أردوغان وتمكنه من القبض على كثير من مفاتيح الحكم، وتبنيه لأفكار تتعلق بالخلافة الإسلامية وما شابهها. من هنا وقعت في الفخ خلال عام واحد في مصر، وحاولت تحاشي تكراره في دول أخرى. التقى الجمعان على قاعدة طويلة من المفردات التي تعبر عن تلاحم ظاهر. وتعزز التحالف العقائدي بينهما. تحدى أردوغان إرادة فئة كبيرة من شعبه رفضت هذا النوع من التوجهات التي كبدت البلاد خسائر باهظة مع دول عربية عديدة. وتحولت أنقرة من عاصمة متقدمة في المنطقة تريد اللحاق بالحاضرة الأوروبية إلى عاصمة مناكفة ومقر للمتطرفين. تشابكت في على الساحة التركية مكونات وأغراض مشتركة. وبدت جماعة الإخوان جزءا من المنظومة الأمنية التي يحرك بها أردوغان المتشددين في مناطق متباينة. واستفاد من الخبرات المتراكمة لدى التنظيم في كيفية تجنيد الكوادر وتوزيعهم وربطهم بالمركز من خلال قنوات قد يصعب على البعض اكتشاف بداياتها ونهاياتها. ظهرت البصمات واضحة في مصر من خلال بعض العمليات الإرهابية التي استهدفت عدد من المسؤولين، وجرى القبض على خلاليا يقظة ونائمة في القاهرة لها امتدادات مع الإخوان المقيمين في اسطنبول. وتماهى الجانبان في الدفاع عن قضية واحدة، لكن بدا الصوت التركي فارضا قبضته على الإخواني. تحولت المعركة التي تدير أنقرة خيوطها السياسية بصورة مستترة إلى معلنة. تتفاخر في الهجوم على مصر دفاعا على الإخوان، ولا تتورع في الدفاع عن إرهابيين ارتكبوا مجازر بحق مدنيين. وتقدم الذرائع التي تبرر أفعالهم الإجرامية عبر قنوات إعلامية تمركزت في اسطنبول، تطل منها يوميا كوادر وقيادات إخوانية تتفنن في الهجوم على الدولة المصرية، وتدعو للتحريض على التخريب، ولا تتورع عن تبرير أفعال المتشددين. دخل أردوغان مباشرة على خطوط الدفاع عن الجماعة على مدار السنوات الست الماضية. انسجمت خطاباته مع أفكار الإخوان بلا مواربة. بطريقة قد يصعب تحديد الفواصل بينهما، لدرجة أن حديثه طغى على قيادات الجماعة، وصار متحدثا رسميا بإسمها ومعبرا عن أمنياتها. أدى الإنصهار إلى ذوبان الجماعة في طموحات أردوغان. عندما احتدمت المواجهة السياسية بين القاهرة وأنقرة عقب التوقيع على مذكرتي تفاهم بحري وأمني مع حكومة الوفاق الليبية، تزايد الكلام عن نشوب مجابهة حربية بين مصر وتركيا، اختار إخوانيو اسطنبول (المصريين) الوقوف بجانب الثانية، فالوطن بالنسبة لهم تتوقف قيمته على طبيعة الأفكار العقائدية التي يمثلها أردوغان، ولو رمزيا. يملك الرئيس التركي الرغبة في التمدد، لكنه يفتقر إلى الأدوات التي تمكنه من الاختراق الذي يحتاج إلى سنوات طويلة كي يثبت جذورها في الأراضي التي يستهدفها. لذلك وجد ضالته في كوادر الإخوان الجاهزة والمنتشرة في بقاع متعددة لتكون مطية مناسبة يحقق بها أحلامه. جذبته الفكرة، وملكته النشوة الافتراضية. وحولها إلى واقع عبر تقديم نفسه كزعيم لطيّف واسع من الإسلاميين. وباتت الحاوية الإخوانية هي المنبع الذي يقدم له العناصر الإرهابية الجاهزة والمستعدة لتقديم تضحيات، اعتقادا منها في أنه ينتصر لمبدأ عقيم سيطر عليها من خلال ما غرسته قيادات الجماعة من أفكار تعمدت أن تبث فيهم روح الطاعة العمياء. لقي أردوغان ضالته في هؤلاء ليكونوا ذخيرة حية، يبعث بهم إلى مناطق الصراعات والنزاعات ويصبحوا مقدمة لقوافله التالية من المرتزقة، ويذهب بهم بعيدا إلى أماكن مختلفة. يدافعون عن مصالحه التي تزعم جماعة الإخوان أنها تتسق مع قيم الإسلام. ربط التنظيم نفسه بحبل طويل في رقبة أردوغان، وتجاهل قادته أن عملية التجريف التي يقوم بها الرجل في الداخل والخارج محفوفة بمخاطر كبيرة، ففي أول اختبار حقيقي يواجهه الرئيس التركي لن يتردد في التضحية بقيادات الجماعة ورديفها الطويل الذي أصبح أداته العسكرية المترامية الأطراف، لأنه ابن فكرة برجماتية مثل الإخوان التي إذا وجدت منفعة أكبر عند خصومه لن تتورع عن الذهاب بعيدا عن أردوغان.
مشاركة :