وكان يومًا عامرًا بالعمل ابتدأ منذ خيوط الشمس الأولى ولم نبرح معمل الفيروسات بمختبرنا التشخيصي البيطري بالأحساء إلا بعد أن أدينا صلاة المغرب. لن نعدم جماعة في ذات الوقت الذي كنا فيه مستغرقين في تشخيص أحد أهم الفيروسات الخطرة التي تنتقل للإنسان من الطيور المصاحبة أو المجاورة، يتحدثون عن قيمة هذا الطب العظيم «الطب البيطري» وأهميته للمجتمع إذ لازالت تلك النمطية من الصور التي تربط هذا العلم بمدلول اسم الحيوان! قابعة في أذهان متحجرة بليدة لاحيلة لنا في زحزحتها إلا كما حيلة الجراح البشري الذي بلغ به التخصص أن صارت شهرته عالمية في إقناع تلكم العقول المهترئة التي لا تزال تصف عمله «وكان هذا صحيحًا بداية الثورة الطبية إذ لم يكن التخصص هذا بعينه معترفًا به في أوساط محترفي الطب» بالجزار!. نعم، لم يكن تخصص الجراحة معروفًا بداية الثورة الطبية الحديثة، وكان ينظر لصاحبه بازدراء بل لسنا نقول زورًا إنه كان يعطى يومها شهادة حلاق!. هذا التخصص العظيم يوم أن عرفت مكانته أضحى اليوم أشهر تخصصات الطب البشري وأمسى ينظر لصاحبه بإعجاب وإكبار. ولقد خبرت تجربة مع جراحي عظام شابين وطنيين في مستشفى الملك فهد بالأحساء أحدهما د. عدنان الراشد والآخر الحبيب اللطيف د. عبدالملك الملا قاما بإعادة ترتيب مفصل لدي قد التف بالكامل إثر زلة قدم على درج وقت مطر فتباعد عظمان عن بعضهما وانقطع وتر مع كسر بعظمة ساق، لم أكن أتصور سهولة التعامل مع حالات كهذي غير أن طبيبينا الحبيبين أديا العمل بمهارة يحسدان عليها حسد غبطة طبعا فبارك الله فيهما.... أو هذا التخصص العظيم يقال عنه من جهلة مايقال!؟ قبلة على رأسيكما يا طبيبين عظيمين ورفع الله قدريكما دنيا وأخرى.سبقنا الغرب في سبر أغوار التخصصات العلمية وشرق فيها وغرب وربما لم نزل في بعضها في طور الحبو، لذا لا غرابة أن تجد الطب البيطري بحكم حداثة تعليمه عندنا لم يزل خافيًا أهميته على عموم المجتمع في حين تجد مكانته عند الغرب عظيمة وصاحبه لديهم ذا حظوة اجتماعية وعلمية لا تخفى. قلتها سابقا وأعيدها وسأظل أبثها أنني بداية عهدي بعمل المختبرات زارنا في معملنا البيطري استشاري بريطاني وأثناء سيرنا في جولتنا معه بأرجاء المعمل التفت إلي متسائلا : هل يعامل الطبيب البيطري عندكم كما يعامل عندنا!؟ ولأنني لم أكن على علم بأحوالهم هناك فقد أعدت عليه السؤال: وكيف يعامل عندكم، أجاب مباشرة: لو مر بأناس جالسين لوقفوا له احترامًا!. من يدافع عن قيمة هذا التخصص العلمي عندنا هو ذاته الذي يدافع عن قيمة المهن العظيمة الأخرى التي لايزال الفكر الساذج البدائي يحتقرها ويطلق إزاءها مصطلحات تحط من قدرها، فالجراح عندهم جزار، والطيار سواق والمهندس الزراعي (شريج) وطبيب الأسنان نجار وحداد وهلم جرا لكل تخصص لن يستثنوا منه واحدًا! البيئة الحضارية الحقة هي تلك التي يمتزج فيها العمل بمختلف صروفه واتجاهاته تمازجًا فذا لاترى فيه نوعًا منه هو أهم من الآخر بل هو التكامل والتعاضد والاتحاد. إن طبيب الأسنان العظيم لن يقدر لوحده أن يؤدي عملا لو أن مخترع الكرسي الكهربائي ذي الأجهزة المختصة رفض أن يعينه باختراعه، ولن يستطيع أن يمارس عملا لو أن فني الكهرباء عاند ورفض إصلاح الكهرباء المقطوعة، وهكذا القياس على كل تخصص لا قدرة لأهله على أداء عملهم إلا بمعاونة أهل تخصصات أخرى. قالها ألبرت أينشتاين «لو أنك حاكمت سمكة على قدرتها أن تتسلق شجرة فستظل طوال عمرها تظن نفسها غبية!» اعملوا فكل ميسر لما خلق له؛ في عملية تكامل ليس فيها أحد في العموم بأفضل من أحد ولا هو فيه أذكى. عودًا على بدء؛ فقد خرجت نتائج التحليل بمعملنا البيطري بالأحساء إيجابية لأحد أنواع إنفلونزا الطيور الخطرة Avian Influenza H5N8، لتبدأ بعدها سلسلة العمل المتواصل لأطباء الحقل البيطريين ومساعديهم في نضال ضد تغول تلكم الجراثيم وخشية وصولها للآدميين، وفي عملية ضرب حصار على مناطق المرض تخليصا لها من الطيور المصابة وتطهيرا لها وتحصينا لمناطق حولها تأمينًا للمجتمع بأسره. ذلكم غيض من فيض من عمل الطبيب البيطري وأهميته كخط دفاع أول في حماية صحة المجتمع بأسره طيره وحيوانه وإنسانه.
مشاركة :