الرواية ترتقي إلى مرتبة عِلم إنساني

  • 1/2/2020
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

الأدب، بشتى أجناسه، أقدم من علوم الإنسان، وقد مارس عدة وظائف لا تختص بابتكار الأشكال وحدها، وإنما أيضا بما يمكن نسبته إلى المعرفة، كنقل ذاكرةِ مجموعة بشرية، والتعبير عن انسجام ثقافة من الثقافات، فضلا عن وصف التحولات التي تطرأ على المجتمع عبر تاريخه. وفي عصرنا الحاضر، صار الأدب، السردي بخاصة، وسيلة للمعرفة والتنمية الذاتية والتفتّح، فهو إذ يغوص بنا في عوالم اجتماعية وذهنية، يوسع دائرة فهمنا للتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس، وينمي فينا طاقتنا على التعاطف والتسامح، ويساعدنا على تجاوز أزماتنا بفتح أبواب الحلم على غد أفضل. النفاذ إلى الأعماق منذ القرن التاسع عشر نافست الرواية الحالة المدنية، ونفذت إلى الواقع الاجتماعي تحلل مظاهره وأدواءه وتحولاته، وتسبر نفسية أفراده وتطلعاتهم، وتصوّر انتصاراتهم وانكساراتهم، بل إنها توقفت أيضا عند ملامح معمارهم بكثير من الدقة والتفصيل. وحسبنا أن نقرأ بلزاك أو زولا كي نعرف المجتمع الفرنسي في ذلك القرن، أو نقرأ نجيب محفوظ لنعرف القاهرة في مرحلة ما قبل ثورة يوليو وما بعدها. فالأدب الروائي، بهذا المعنى، يظل شكلا من أشكال التوثيق الاجتماعي لا مثيل له، لأن التخييل لا يلغي قوة الواقع وحضوره، بل ينظمه في شكل حبكة سردية تبرز أهم ما فيه من عناصر قوة أو ضعف. ومن ميزاته أن له القدرة على النفاذ حيث يريد، حتى ما لا يرى بالعين المجردة، أو ما يحظر دخوله أو الخوض فيه، بخلاف العلوم الإنسانية. وإذا كانت العلوم الاجتماعية، كما حددها كارل بوبر، مباحث ازدهرت في المجتمعات المفتوحة، لأنها تحتاج إلى قدر من الحرية، ولو كان ضئيلا، لإجراء البحوث الميدانية وإمكانية نشرها ونقدها، فإن الأدب الروائي ظل رافدا مهما لتلك العلوم، لكونه يستطيع أن يحلّ بأيّ مكان، حتى في المجتمعات المنغلقة، كما هو الشأن في بلدان المنظومة الشيوعية سابقا، حيث لم يكن ثمة مجال لعلماء الاجتماع غير الاتكاء على الأدب السردي للوقوف على ما يحدث خلف الجدار الحديدي. ولولا ذلك الأدب لظلت المعطيات عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية في تلك الأقطار غائمة، تجريدية، وفي الأقل محل شك واختلاف إذا ظهرت في كتابات بعض المنشقين. فلولا سولجينتسين مثلا ما عرف العالم ما كان يجري في الاتحاد السوفييتي من جور وعسف، ودوس لحقوق الإنسان وكرامته. وغنيّ عن القول إن هذا البعد التوثيقي ليس مقتصرا على الماضي أو الأوضاع المعقّدة، بل يشمل كل جوانب الحياة، في شتى الظروف البيئية والاجتماعية. ورغم نزوع الرواية منذ جيمس جويس والرواية الجديدة في فرنسا إلى التجريد والتجريب، فإن أغلب ما ينشر من أدب روائي في العالم لا يزال يعكس واقع المجتمعات التي ينشأ فيها، بشكل يمكن أن نفهم من خلاله، على تنوع منشئيه واختلاف مشاربهم، طبيعة أفرادها وعاداتهم وتقاليدهم والمشاكل التي تشغلهم، ونتعرف على بيئتهم ومعالمهم وآثارهم. ذلك أن الرواية قادرة على النفاذ إلى مختلف طيّات العالم الاجتماعي، تلتقط بصفة حدسية تقريبا عناصره ومكوناته، مثلما هي قادرة على استشراف تحولاته، فهي تعرف كيف تروي حركة الحياة، وانبثاق الطارئ، وكيف تسرد اللاعقلاني والجزئي والحسّيّ والناعم والعرَضي، مثلما تعرف كيف تصف خفقان قلب أو ضوع عطر أو همسة عاشقٍ أو خطوة تائه أو لمعة ضوءٍ على صفحة ماء، حتى غدت، بفضل عنايتها بالتفاصيل، أشبه بموسوعة شاملة عن الواقع. السرد وعلم الاجتماع لتلك الأسباب، اكتست الرواية دورا لا غنى عنه لفهم العالم، لاسيما في المجتمعات التي تطغى فيها ثقافة الصورة والأنباء المتواصلة، واحتلت موقعا ينافس العلوم الإنسانية، حتى عدّها بعضهم هي نفسها عِلما إنسانيا. بل إن عالم الاجتماع الفرنسي جان لوي فابياني يؤكد أن بعض زملائه من علماء الاجتماع والمفكرين استأنسوا بالرواية في مقارباتهم العلمية، فجيل دولوز اتكأ على بروست، وسارتر استفاد من هكتور مالو، وإدغار موران نهل من دستويفسكي، بينما أقرّ بيير بورديو أنه استوحى أسلوبه عمدًا من كاتبين هما بروست وفلوبير، لأن “الخطاب المستعمل في دروس السوسيولوجيا لم يكن ملائما إطلاقا” على حدّ تعبيره. ولكن اقتراب علم الاجتماع من أسلوب الرواية، شأن بورديو خاصة في كتابه “التميّز”، يثير مخاوف بعض علماء الاجتماع من أن يفقد هذا العلم مميزاته، ونعني بها قدرته على التحكم في نمط إنتاج المعطيات وظروف تحليلها، وقدرته أيضا على وضع أشغاله على طاولة الجدل النقدي، كشرط ضروري لحيوية هذا الاختصاص. بينما لا يزال بعضهم الآخر يرفض أن يظل علم الاجتماع ثقافة ثالثة، موزعة بين العلم والأدب، كما بيّن الألماني فولف لوبينيس في كتاب “الثقافات الثلاث”، فهم يصرون على اتباع وصية دوركايم الذي ألح على “ضرورة اتخاذ الدور الخاص بفئة معينة، أي ذلك الذي يناسب كل علم”، وإن كانوا يدركون أن اختصاصهم أبعد ما يكون عن العلوم الصحيحة، كما عبّر عن ذلك مارسيل غوشي. فقد قال في معرض حديثه عن فرويد “التحليل النفسي ليس علما. تماما كالسوسيولوجيا والإثنولوجيا واللسانيات وسائر العلوم الإنسانية، فهي تأويل للظاهرة الإنسانية، تجهد في إثبات الأفعال والحقائق بكل الصرامة الممكنة، ولكن استنتاجاتها تعزى بالضرورة إلى الهرمينوطيقا: نؤوّل، دون أن نستفيد بالضمانات التي يوفرها التجريب والممارسة واستعمال الرياضيات، كما هو الشأن في العلوم الصحيحة”. والرواية لا تدّعي العلم رغم أنها حمّالة للمعرفة، ولكنها تقع هي أيضا بين منزلتين، وإن كانت أقرب إلى العلوم الإنسانية، بفضل ما تتسم به من قدرة على الإلمام بالواقع وتفاصيله، ونقد واقعه واستشراف آفاقه، فضلا عن كونها أداة مثلى لقراءة العالم. والمبشرون بموتها،بسبب المستحدثات التقنية المتواترة، ومزاحمة الشاشات، إنما يبشرون بفقدان الإنسان وسيلة لا غنى عنها لفهم العالم والإقامة فيه.

مشاركة :