قراءة في رواية أميمة الخميس .. مسري الغرانيق

  • 1/3/2020
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

حصلت هذه الرواية على جائزة نجيب محفوظ للرواية من الجامعة الأمريكية بالقاهرة في دورتها عام ٢٠١٨ م. وجاء في حيثيات منح الجائزة أنها رواية جادة تتناول الزمن الحالي من خلال التاريخ، وأضافت لجنة الجآئزة أن لغة الكاتبة تتميز بالعذوبة، ويضفي النص على مدن العقيق المعرفة النادرة الثمينة. ذكرت الكاتبة في كلمتها في تلك المناسبة أن هذه الرواية قد استغرقت أربع سنوات حتى ترى النور.بالتأكيد فهذا اللون من الكتابة الذي يتكئ على التاريخ بالغ الصعوبة، فأنت تدخل إلى مضمار مسرح معروفة أحداثه مسبقا، مرسومة مسارات أبطاله، فكيف تدخل أبطالا اخترعهم خيالك إن لم تكن تمتلك البراعة والمعرفة، وهذه لا تتأتي إلا بتحضير معرفي عالي المستوي،أمر تشهد فيه هذه الرواية لكاتبتها بالتفوق فيه.. يبدو لي أن تقدير الجهد الذي يبذله كاتب يتكئ على التاريخ هو الذي يجعل من هذه الروايات روايات جوائز أو روايات جماهير، ثلاثية قرطبة لرضوى عاشور حازت على نفس الجائزة في دورتها الأولى،وهي رواية عن تاريخ العرب في الأندلس ومحاكم التفتيش .كما وحازت رواية موت صغير لمحمد حسن علوان التي تعتمد علي حياة وفلسفة ابن عربي بجائزة البوكر العربية. مثل سابقتها عزازيل ليوسف زيدان التي تتخذ من تاريخ المسيحية في زمن بدايات مذاهبها مسرحا لأحداثها. إلى ذلك نري النجاح الجماهيري المتجدد لروايات المعلوف مثل سمرقند وليون الأفريقي، ومثلها رواية التركية أليف شفق عن قواعد العشق الأربعين التي توظف تاريخ وفكر الصوفي جلال الدين الرومي، وحديثا أيضًا نالت ثلاثية المماليك للروائية المصرية ريم البسيوني جماهيرية واسعة. إذن فإن في هذه الروايات ما يجتذب القارئ والناقد معا. تأخذنا رواية أميمة الخميس في صفحاتها التي تقارب الستمآئة في رحلة في الجغرافيا والتاريخ. إذ نصحب مزيد الحنبلي إبن ثاقب الحنبلي النجدي وشما الوائلية في رحلة بدأت في مطلع القرن الخامس الهجري،ارتحل من نجد ليصل قرطبة في الأندلس بعد خمس سنوات. في هذه الرحلة نرى صورة بلدان العالم الإسلامي في مطلع القرن الخامس، نستطلع أحوالها السياسية والفكرية والإقتصادية والإجتماعية، كما نتعرف على الكثير من مدنها ومعمار مبانيها ومساجدها الباذخ. ونتعرف كذلك إلي مزاج عصرها وخرافاتها وأساطيرها، رحلة ماتعة رغم ما فيها من مآسٍ في عصر ضعف الدولة العباسية التي تتفتت إلى ممالك مستقلة وشبه مستقلة. حكم بنو الأخيضر المتشيعون نجد حيث ولد مزيد، ليتعلم ويبرع في الخط على يدي جده، فجده كان شيخ وإمام المسجد الجامع في حصن اليمامة، حيث يدعون فوق المنبر لآل البيت العلوي، لكن جده لم يلعن معاوية قط مما يدل على تشيعه المعتدل.لم يتعلم مزيد من جده الخط فقط بل حفظ من آي القرآن والأشعار، وبرع في إلقاء قصائد الأعشى الحنفي. يرتحل مزيد إلى بغداد، يمر في طريقه بأطلال القرامطة وما خلفوا حولها من أساطير. ثم يسير في درب بنات نعش من اليمامة إلى البصرة. في البصرة عمل وقتا ليمول سفره إلى بغداد.، في مكتبة مسجد البصرة طالع مخطوطة كتاب بعنوان تأثير الأنغام على أرواح الحيوانات لأبي الحسن بن الهيثم، وهنا مسه سحر العلم وعشق القراءة. ثم ركب النهر إلى بغداد المدينة المدورة، مقصد طلبة العلم ومحج القوافل وقصور الخلافة. العصر عصر القائم الخليفة العباسي، وهو ممن ورثوا الخليفة المتوكل، والمتوكل إنقلب على المعتزلة الذين قربهم المأمون، وكما اضطهد المأمون أهل الحديث، حل الإضطهاد بالمعتزلة في عصر المتوكل وخلفائه، ولكن بني بويه المتشيعه كانوا هم السلطة الحقيقية في بغداد، ضاقت حاضرة الخلافة بالفكر، وبالعقل وأصحابه، وأصبح من يقرأ كتب دار الحكمة -حيث كنوز الفلسفة الإغريقية التي تُرجمت إلي العربية -مهرطقا يلاحقه رجال القائم. في بغداد ثني مزيد ركبته في مجلس الشيخ التميمي يكتب عنه فقه الحنابلة ويأخذ على ذلك أجرا،كما تعرف إلي أبي الحسن الهاشمي صاحب النزل، وتردد على مكتبته وحضر مجلسه، وحين وثق الهاشمي منه استأمنه علي أسراره، (نحن السراة الغرانيق، علينا بث هذه الكتب في المكتبات ودور العلم وبين أيدي ذوي الفكر النابه الفطن، وأولئك الذين اتخذوا العقل نبراسا في جلب المنفعة ودفع المضرة)، والمقصد كتب دار الحكمة في الأقطار، واستجابة لنصح الهاشمي حمل مزيد الكتب سرا خلال هربه لينجو من موجات العنف، واصطحب الوصايا السبع لتكون خارطة الطريق فتنير له عتمة الدروب. قصد القدس مارا ببصرى الشام فقد فاتته دمشق لمخاطر الطريق، ومثل كل فكرة تحارب بالسيف والسجن تنزل الأفكار إلي تحت الأرض، وتظهر هنا وهناك وقد يضل فيها قوم، ويموت من أجلها قوم. لا تموت الفكرة ولكنها تختبئ. تفاصيل الحياة في حصن الأخيضر وفي بغداد وفي بصري الشام وفي القدس والقاهرة كثيرة مشوقة وترقي الرواية إلى مستوى التأريخ الاجتماعي لهذه المدن جميعا. في القدس بحث عن الشيخ عبيد القيسي وتعلم في حلقته، وقد أثني القيسي علي جرأته التي مكنته من تهريب خمسين من كتب دار الحكمة التي باتت تحرق ويُسجن حاملوها.هيأ له القيسي غرفة في بيت أحد قسس النصارى، تحاور مع النصارى في مذاهبهم وحضر أعيادهم في كنيسة القيامة التي دمرت بأمر من الحاكم بأمر الله في مصر وأصبح العامة يطلقون عليها كنيسة القمامة،في مظهر ينافي السماحة المعتادة في المدن الإسلامية، تعلم من مساكنيه النصارى كيف يشخص المرض الحلو (السكر) بالتجربة، وكيف يعالج مرضاه بالغذاء، كما تعلم منهم بعض الوصفات النباتية التي تعالج بعض الأعراض، وإذا أضيف إليها ما تعلمه مزيد من كتب جالينوس وابقراط في الطب أصبح صاحبنا معروفاً عند الناس بالتطبب. • انتقل صاحبنا إلى مصر وزار دور وراقيها في القطائع والفسطاط والقاهرة، واتصل بأحد كبار السراة فيها، وحلا له المقام وتلقي العلم في الأزهر، وإن ضاق بالحاكم بأمر الله ومظاهر عبثه وجنونه. وإرهاقه لنصاراها ومسلميها ولنسائها، والعقوبات التي ينزلها بأهلها. وفي نوبة غضب واحدة على استهزاء الناس بجنونه في حكاية الدمية قتل ألفا وثلاثمائة من النصارى وألفا وخمسمائة من المسلمين. وكما كان حاكمهم مجنونا فإن مزيد يتعرف علي إثنين يدعيان الجنون، أحدهما المجذوب الذي يستأجر غرفة في بيته، ويتعالج بوصفاته،ثم يوزع أحاديثه في القاهرة عن فوائد العنب الصحية، والعنب من الفواكه التي حرمها الحاكم بأمر الله، أما المجنون الآخر فهو الحسن بن الهيثم، الذي التجأ إلى مصر هاربا من بغداد، بعد أن حمل رجل يُدعي ابن المارستانية كتابا له في الفلك، وأخذ يؤلب العامة عليه متهما إياه بالزندقة والكفر، في مصر حاول أن يحل مشكلة فيضان النيل فبني السدود والنواعير إلا أنه لم يحقق ما أراده منه الحاكم بأمر الله، ادعى الجنون فسجن ورماه الناس بالشعوذة.. عندما كان يتحدث عن نظرياته في البصريات، والتي استند إليها في تصميم ما يشبه العين السحرية التي تستخدم اليوم على أبواب البيوت ليتبين لأهله من يقدم إليهم. يقطع مزيد ليله حائرا يفكر يقلب الموضوع علي جميع أوجهه،إذ يأبى أن يدخل في دائرة المعقول، من الذي جلب هذا على عرش مصر؛ مصر وكل رجالاتها وعلمائها وفقهائها ينضوون تحت جناح هذا الفتى الحاكم بأمره... ليجد الجواب عند إمامه السري رشيد بن علي بكلمة واحدة مقتضبة الطغيان…. ونشوة السلطان، وصولة المتغلب. حمل مزيد رحاله إلي تونس، أصابته الحمى في الطريق، وسده أهل القافلة في حفرة جعلوها له وتركوه متوسدا قبره وحوله كتبه،و تعاهدته بالتمريض إمرأة بدوية، ثم تدخلت قوة غير واضحة لمعونته فأرسلت له معين الفتي البربري ليكون خادما ورفيقا، كما يحدث أن تدخل قوي من خلف الستار لتساعد أصحاب الأفكار الذين انتقلوا من العلن إلي السر،و قد تقصد خيرًا وقد تقصد شرا، في القيروان لم يجد أكثر مما كان في الأزهر فعزم على الرحيل،لاحظ أن التشيع الذي فرضه الفاطميون قد انحسر عنها ولم يبق إلا في الأذان، وهكذا الأفكار التي تفرضها السلطة لا تعيش طويلا بعد فراق السلطة. يريد قرطبة حيث الحضارة الإسلامية. وحيث الفلاسفة المسلمون والفقهاء في مدن الأندلس الزاهرة،مر في طريقه بالمهدية وانتقل إلى المرية على الجانب الآخر من البحر لتكون محطته الأولي في الأندلس.في رحلة البحر بينهما رأي شيطانات البحر اللواتي ذكرنه بجنيات اليمامة اللواتي يخترن فتى يتعشقنه ويطرن به فوق جذع نخلة إلى عُمان، لكن جنيات اليمامة لا يتبدين إلا للذين نسوا صلاة العشاء. في اليوم الرابع من إبحارهم يصبحون علي رياح ومطر كثيف يكاد يهلكهم، لكن القباطنة كانوا هادئين فقد تعودوا على حصول ذلك عندما يمرون بقبر الرجل الصالح السري السقطي، الذي مات فوق مركب، ودفن في البحر واخترع أهل البحر خرافات كثيرة تقرن قبره بهيجان البحر، حديث الخرافات تمهيد لانطفاء العقول. في مرية يستقر في نزل حمدونة حيث الترف الأندلسى، في الجانب الآخر من النزل معمل للنسيج، تصنع فيه حمدونه وعاملاتها العباءات لأميرات البيت الأموي، نكتشف أن الأبيات الشهيرة التي نسبت إلى ولادة بنت المستكفي وأخذت عليها لما فيها من تهتك إنما كانت من إضافة عاملات الحرير على عباءة ولادة، ويبتسم الحظ هنيهة لمزيد فيعثر عند حمدونة علي أناهيد القينة الفاتنة التي شغفته حبا منذ رآها مرة في أحد مجالس اللهو ووافقت على أن تتزوجه ولكن زواجا قيروانيا،عشق المعرفة عدوى تنتقل من مزيد إلي زوجته لدرجة أن ترى نفسها وقد أصبحت أرقي من أن تحفل بكتاب الأغاني وترده(إليك عني،فما كُتب إلا لبلاط السلاطين ومنادمتهم، وهذا ما أضعت فيه أيامي أسترجع وأحفظ قصائده أتلوها على رؤوس السكارى، أعطني من الكتب التي تجعلك تتحدث وكأنك شيخ عمره ألف عام) أعطاها كتاب المدينة الفاضلة، لم يدر أنه سيزلزلها ويستلها إلى مدنه بلطف فلا تخرج من مدينة الكرامة بعدها أبدا. انتقل إلى قرطبة وهناك تواصل مع فقيهة الأندلس التي تدرس في مساجدها وعندما تبهره علومها ومعارفها يتساءل إذا كان مثلها من النساء يحضن ويلدن، ويجدها مولعة بعلومه العقلية، وإن لم تطمئنه على مستقبل هذه العلوم في قرطبة، بُهرت زوجته بالفقيهة وعلقت بعد لقائهما (أين أنا من هذه العلوم والمعارف،و الله لو أن أهلي علموني أمراً غير هز أردافي، لأنتصبت فقيهة هذا الزمان). فهمت القينة السابقة أن المعرفة والعقل تحرر المرأة من سجنها داخل قضبان الغرائز والشهوات وترتقي بها في مدارج الحياة. في قرطبة لم يجد مزيد حلمه ،لم تكن قرطبة هي المدينة التي ورثت بغداد يوم كانت بغداد مزهوة بدار حكمتها،قرطبة اليوم هي نفسها بغداد اليوم كلاهما دخلت عصرا غابت فيه شمس العقل التي أضاءت فيهما في القرون الهجرية السابقة .أصبحت كتب الحكمة والعقل إدانة لقارئها،و هكذا يسقط مزيد في الجب كما سقطت مدن العقيق.و يسقط القارئ الجاد للرواية في حسرة وداع عمل روائي خلاب لن ينفك من أسر جماله وعذوبته أمداً طويلاً.

مشاركة :