ثمانية عشر شهراً ليست إلا عمراً لإعصار بدأ يعصف في ذهن الفنان التشكيلي الفلسطيني عبد الرحمن قطناني وهو في مشغله بمدينة الفنون في باريس (حيث يعمل ويقيم)، ليعود به إلى بيروت في معرض ينظمه له صالح بركات في غاليري أجيال (شارع عبد العزيز- حتى 30 مايو)، متضمناً مجموعة من الأعمال التجهيزية، منفذة بأسلاك شائكة، كخامة أساسية قابلة للتطويع والتأويل في آن واحد، لما تحمله من رمزية معنوية وأبعاد سياسية- سوسيولوجية تتعلق بمسائل التنقل وعبور الحدود وقضم الأراضي واغتصاب حقوق ساكنيها وقمع الحريات. إنها الموضوعات التي لطالما عالجها الفنان الشاب أثناء إقامته في مخيم صبرا في بيروت، الذي استمد من ملامح العيش في كنفه، إلهاماته الأولى ومشاهداته وأفكاره وأسئلته المضنية ومشاريعه الفنية التي جسّدت معاناة سكان المخيم وأحلامهم بالعودة. لكأن الانتظار الطويل الذي تحدث عنه الفيلسوف شوبنهاور يحيل الى وجود عبثي، إن لم نقُل إلى اليأس والتشاؤم، كما انه يُكسب الحياة وجوداً موقتاً. لعلّ الألم وحده صنع موهبة الشاب الفلسطيني عبد الرحمن قطناني وصقلها بالمعاناة، وهو الذي لفت بتقصيّاته حول المكان والذاكرة والفقر والحرمان، أنظار ذواقة الفن المعاصر في العالم العربي والأوروبي حتى دخلت أعماله في مقتنيات المزادات العالمية. فكانت ألواح التوتياء هي من الوسائل البسيطة والمتاحة التي عالجها بالقص والقطع، لكي يُخرج منها أشكاله الإنسانية كما لو أنها ظلال مرسومة على جدار المخيم. ظلال تتحرك وتعيش على هامش المدينة، لكنها ظلال تتعلق بحبال الهواء أو بحبال الغسيل لا فرق، فالشوارع تزدحم بالشعارات والصور وعبارات الانتماءات المتعددة، والذاكرة تضيق حتى الاختناق بالأحداث والوجوه وأمزجة العابرين، فالأزقة ضيقة حتى تكاد الأبنية تتلاصق، ولا يعود لكل بيت من خصوصية. إنها ليست بيوتاً من أسمنت أو حجارة، بل إن سقوفها وجدرانها هي من لوائح التوتياء ومن الخشب. الهشاشة هي التي تسكن الذاكرة، لاسيما حين يتعلق الأمر بأطفال أبرياء يلعبون في الشارع ويطلقون بالونات ملونة في فضاء لا يدري أحد متى يخترقه أزيز الطائرات. وفي الأحياء المنسية المتشابهة في التكوين والتقشف والاكتظاظ السكاني والبؤس، اكتشف عبد الرحمن قطناني أنه لا يملك عنواناً، وبالتالي لا يملك بريداً ولا مكاناً محدداً لإقامة معلنة على خارطة العالم. في تجهيز «الإعصار» المكوّن من مواد فقيرة (أسلاك وخشب) يطرح عبد الرحمن قطناني مفاهيم رمزية تعكس في دلالاتها قضايا المنطقة العربية على ضوء أزماتها وتهديداتها وثوراتها وجنونها وصدماتها التي لا تصدق، لذا يعيدنا إلى نقطة الغليان الأولى التي يبدأ منها الإعصار، وهي قعر المأساة: فلسطين أرض الجراح التي تنطلق منها دوامات لولبية بألسنة من الأسلاك الشائكة المتكوكبة في دوران ينمو ويعصف ويمتد إلى عنان السماء، بما يشبه الغليان الذي يكتسح بصيرتنا اليومية عن التمدد الإرهابي والقتل والمجازر والتعذيب في بؤر التوتر من جغرافيا المنطقة العربية. يتراءى الإعصار كعمود من الدخان، كشجرة ملعونة من هذيان الغضب، ولكن اللمعان الذي يمزق لحم المأساة شبيه بلمعان الفضة، إنه اللمعان الشائك الذي تقع العين في حبائله المجدولة التي لا تنتهي دواماتها وغرائزها وأظافرها وحزوزها الطويلة التي تخدش المشاعر. هل للإعصار معنى واحد مباشر، وهو الهدّام المتصل بالمآسي والخراب، أم يمكن التعاطي معه كمرادف للثورة والغليان والتمرد بالمعنى الإيجابي للحؤول دون الصمت ولقلب المعادلات الصعبة نحو التغيير؟ عندها تنقلب موّادية «الشائك» من الأسلاك إلى «جماليات» الشكل بحد ذاته، أي الشكل العملاق الذي يشرئب ليقتحم الفضاء في ذروة لحظاته الانشطارية. وفي هذا التجهيز لا بد للنظر من الارتفاع إلى الأعلى لاستيعاب حجم المأساة وضخامتها وتمددها الدائري. وهي المقاصد المرجوة من العمل الفني بحد ذاته، أي أن يحيل إلى مشهدية زائفة عن فكرة مواربة ذات ملمس منفّر وخشن. المواربة هي التي صنعت من التقاطعات أشجاراً مقتلعة من الأرض، حتى أضحت بدورها أشجاراً شائكة مسننة، إنها الأشجار التي قيل يوماً إنها مباركة في الأرض حتى حلّ فيها الشوك محل الثمر. وأشجار عبد الرحمن قطناني تقف وحيدة وتستشهد وحيدة وتصمد وحيدة في عصر الفوضى العربي، عصر الاضمحلال والضياع والإعصار العنيف.
مشاركة :