التنافس الصيني - الروسي في آسيا الوسطى

  • 1/6/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

خورجوس (كازاخستان) بلدة صحراوية نائية بمحاذاة الحدود الصينية ترقد هادئة لقرون، لكنها صارت تصحو على ضجيج محطة مزدحمة بالأعمال من رافعات البناء ومسارات سكك حديدية ومستودعات ضخمة ومصانع وسكان جُدد، وتستعد لتصبح مركزًا عالميًا للنقل الصاخب ووصلة حيوية في مبادرة «الحزام والطريق» أو طريق الحرير الجديد. هذا الطريق هو مبادرة صينية عظيمة الطموح لربط الصين بالعالم، لتكون أكبر مشروع بنية تحتية بتاريخ البشرية. المبادرة أطلق عليها «حزام واحد طريق واحد»؛ لتطوير البنية التحتية والاستثمارات في بلدان آسيوية وأوروبية وأفريقية؛ مما أقلق بعض الدول، كلٌ لأسباب تخصه، إنما أكثرهم قلقاً جار الصين العتيد وصديقها اللدود: روسيا! تلافياً لهذا القلق قامت الحكومة الصينية، عام 2016، بتغيير عنوان المبادرة إلى «الحزام والطريق»، حاذفة كلمة «واحد» كيلا تكون عرضة لسوء الفهم كشكل من أشكال الاستعمار الجديد. المبادرة تضمنت عدة محاور: تجارية، ونقدية، وجيوسياسية؛ تغطي 68 بلداً، شاملة 65 % من سكان العالم، و40 % من الناتج المحلي الإجمالي. المحطة المحورية لطريق المبادرة تمثلها كازاخستان، أكبر اقتصاد في آسيا الوسطى؛ إذ احتضنت الحكومة الكازاخية بالكامل شراكتها مع الصين، ووصفت نفسها بأنها «مشبك» لمبادرة الحزام والطريق متطلعة لاستغلال الفرص الاقتصادية الجديدة التي توفرها بكين. فالصين انطلقت باتجاه آسيا الوسطى كوجهة جديدة للتجارة العالمية ولجعلها مختبرًا جيوسياسيًا. بالمقابل، فإن روسيا تنظر تقليديًا إلى بلدان آسيا الوسطى السوفييتية السابقة (كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان، تركمانستان، أوزبكستان) باعتبارها مجال نفوذها الخاص، لكن صعود بكين كقوة اقتصادية مهيمنة غيّر ديناميكيات المنطقة، مما فتح حقبة جديدة من إعادة تقويم الوضع هناك (ريد ستانديش، فورين بولسي). إنه وضع دقيق الحساسية غامض المستقبل.. يقول الباحث ألكساندر جابويف، بمركز كارنيجي بموسكو: «آسيا الوسطى هي حالة مثيرة للاهتمام حيث تتحرك الصين بعناية في بيئة معادية.. متخذة مقاربة براجماتية، وفي بعض الأحيان تستجيب لروسيا من أجل تعزيز موقعها لتصبح القوة الاقتصادية الرئيسية بالمنطقة». روسيا بدورها اتخذت مقاربة براجماتية مع الصين حين واجهت عقوبات الغرب تجاه كتلتها الاقتصادية (الاتحاد الاقتصادي الأوروبي الآسيوي) في مشاريعها، بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم واندلاع الحرب شرق أوكرانيا عام 2014 . ثمة تعاطف بين روسيا والصين، لأنهما تشتركان في الشعور بسوء المعاملة من النظام العالمي الغربي، إلا أن تزايد الوجود الصيني في المنطقة يثير حالة من عدم اليقين والشك من جانب الكرملين. لذا، في عام 2015، وقع الرئيسان الروسي والصيني اتفاقًا لمناقشة تنسيق الاتحاد الاقتصادي الأوروبي الآسيوي مع الحزام والطريق في الصين، واستمرت الشراكة بين البلدين تتنامى بحذر. في آسيا الوسطى، وافق الكرملين على تفوق الصين الاقتصادي، شريطة تقسيم العمل بالمنطقة: ستكون الصين القوة الاقتصادية الرائدة، وستواصل روسيا تشكيل المنطقة من خلال روابطها السياسية والعسكرية (ستانديش). «حتى الآن، تحترم بكين هذا الاتفاق، لكن السؤال هو هل يمكن استمراره بالمستقبل؟.. تحتاج موسكو الآن معرفة ماهية خطوطها الحمراء بالنسبة للصين في المنطقة». كما كتب جابويف. ففي طاجيكستان، التي تشترك بالحدود مع أفغانستان والصين، تتمتع بكين بوجود أمني صغير ولكنه متزايد. كلا البلدين (الصين وروسيا) قلقان بشأن الوضع الأمني في طاجيكستان وبقية بلدان آسيا الوسطى، إلا أنه على الرغم من شراكتهما وتعاونهما المتناميين، لا تزال موسكو تشعر بالقلق إزاء طموحات الصين وإزاء هبوطها كشريك صغير في علاقاتهما. وقد أدى ذلك إلى نهج ذي مسارين، فقد سعت موسكو إلى دعم انتقائي للصين وإعاقتها في آسيا الوسطى. «تعرف روسيا أن الصين جزء من المستقبل، لكنها تريد أن يكون وجود بكين في آسيا الوسطى بشروطها الخاصة» كما يقول كوسنازاروف المحلل في آسيا الوسطى (ألماتي، كازاخستان). صعود الصين الحاد ونفوذها المتوقع على مستقبل آسيا الوسطى واضح، لكن لن يمضي دون عقبات، لأنه يثير القلق لدى الدول هناك من أن تكون بلدانهم مجالا لصراع القوى الكبرى، فضلا عن إثارة الشكوك في نوايا الصين سواء من ناحية سيطرة الشركات الصينية على اقتصادها أو من ناحية مصداقيتها التي تضررت بسبب السياسات الداخلية للصين تجاه الأقليات المسلمة في منطقة شينجيانغ ذات الغالبية المسلمة التي تشترك في حدودها مع كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان. «هذا قد يعطي مجالاً لموسكو لإعادة تأكيد قبضتها على المنطقة.. ومواصلة لعب دور سياسي في آسيا الوسطى» كما يقول ستانديش. إذا كان واضحًا أن النفوذ الصيني سيتوسع ويهيمن اقتصاديًا في آسيا الوسطى، مع استمرار روسيا في هيمنتها السياسية والأمنية، فليس واضحًا مآلات هذا التنافس بينهما.. يقول الباحث ناديج رولاند (المكتب الوطني للبحوث الآسيوية): «بكين تعرف أن موسكو حساسة بشأن وضعها، والحكومة مستعدة للسماح لروسيا بالاحتفاظ بغطائها على آسيا الوسطى.. إنهم (الصينيون) يلعبون اللعبة الطويلة.. هذا ما تفعله الصين». إذن، الصين بنفسها الطويل بطول تاريخها المديد واستراتيجية التقدم الهادئ تمد يدها الاقتصادية طويلاً في آسيا الوسطى التي طالما اعتبرتها روسيا تحت قبضتها الصلبة.. لكن موسكو الآن مجبرة على قبول التمدد الصيني وعيناها محدقتان بحذر على مقدار هذا التمدد الذي قد يثير غضبها.. الجغرافيا السياسية الجديدة والتاريخ القديم يصطدمان هناك..

مشاركة :