في مدينة ود مدني السودانية، بسخاء طبيعتها الأفريقية، وبكل سحرها وأساطيرها الشعبية، اختار الفنان السوداني راشد دياب ملامح تجربته الفنية الخاصة، فقد شكّل تعدّد النشاطات الفنية المتنوعة بهذه المدينة وأساليب تصوّر الفنانين الشعبيين للحياة البسيطة فيها هويته العامة، ومن ثمة برز تكوينه العالمي من مجموع الرؤى الإبداعية المتشكلة من إدراكه لثقافة وطنه ومعارفه. وعبر امتداد الصحراء الصامت وألوان ضفاف نهر النيل المتدفق، ومن إلهام نسائها ومعاناتهنّ تداخلت كل هذه العوامل مع غربته في مدينة مدريد الإسبانية، حيث كان منتجه الإبداعي ثمرة تلاقي ثقافات وحضارات متعددة. يحمل راشد دياب هاجس الفنان التشكيلي وأسئلته التي لا يشبعها إلاّ اللون والشكل والظل، موطّنا أسراره وهويته في الألوان، في تجربة هي واقعية جدا بقدر ما هي تجريدية وعاطفية ومنسابة مثل جريان النيل في السودان. وبعد غربته في إسبانيا عاد دياب إلى وطنه السودان حاملا معه طرائق شتى في التعبير الفني، لهذا نجده في محطته الأخيرة بمتحف البحرين بالمنامة منحازا للجمال في معرضه الشخصي الاستعادي “ما وراء الصمت”. منذ طفولته اتصل دياب بعالم الفنون والتشكيل، وتعوّدت يداه على اللعب بالطين؛ يصنع منه أشكالا مختلفة لينتقل من بعدها إلى الرسم بالرصاص على الورق والقماش، حتى اكتشف من بعدها سحر الألوان وقوتها والتي فتحت له أبوابا جديدة في الإبداع. أحب دياب السودان وأحب بيئته الصحراوية الصامتة، فسافر في كل أنحاء البلاد ليختبر جمال ألوانه والأشكال التي فيه. ثم سافر إلى إسبانيا لإثراء تجاربه الإبداعية، وليعود مجددا إلى حضن وطنه مؤديا رسالته الجمالية والفنية. وفي معرضه الاستعادي “ما وراء الصمت” يكتشف المتابع تفرّد هويته الفنية التي أسّسها على مبدأ تحويل أحد العناصر الثقافية أو الاجتماعية إلى موضوع، ومن ثم تحويل الموضوع إلى ذات، ومن ثم تحويل الذات إلى رؤية عبر الخيال والجمال، لأن الجمال بالنسبة إليه حقيقة، أما اللوحة فتعني له خلاصة تجربة الإنسان، وهي تتجسّد في التأمل الذي هو صفة للشعوب القوية. مصادر إلهام الفنان السوداني راشد دياب الفنية تأتي من ثلاثة أشياء: من المرأة التي وجدها في السودان موضوعا محفّزا لمخيلته، بانحناءاته وتموّجاته وألوانه، فهو يتمثّل المرأة كأمه التي احتضنته، وهو الذي يقول عنها “أسمع في المرأة صوت أمي وأنا طفل وهي تقول لي أنت فنان”، ثم النيل المستمر بعطائه وتدفقه، وأخيرا الصحراء التي عشقها ووجد فيها ذلك الامتداد والصمت الجميل. وعن تجربته يقول مواطنه الفنان التشكيلي إبراهيم الصلحي “راشد دياب فنان سوداني موهوب في التلوين والرسم والطباعة، وقد تلقّى تعليما أكاديميا مكثفا داخل وخارج السودان، ويُعرف أيضا كمثقّف عميق الإدراك بثقافة السودان وشعبه. إنه يساعد الفنانين السودانيين المبدعين بمختلف أعمارهم، مؤمّلا في إعادة إحياء الحركة الفنية التي أهملت في الخرطوم منذ سنين، وهو من الذين إذا فكّروا في شيء فعلوه، لأنه فنان ديناميكي مفكّر وحر. إنه بقدراته ورؤيته الثاقبة وإصراره يدرك طيفا يمكن إعادة بثّ الوعي لبلد خلد في سبات عميق منذ زمن طويل”. يمكن التعرّف على تجربة راشد دياب التشكيلية الطويلة من خلال ثلاث مراحل فنية تشكّل عوالمه منذ انطلاقته حتى يومنا هذا، وما يحمل فيها من أسئلة فنية مبتكرة وعميقة. وقد اختار دياب في المرحلة الأولى (1983–1986)، والتي شكّلت بداياته، تناول تصاميم الخط العربي مع آيات القرآن على الجانب الأعلى من اللوحة، حيث يتميز استعماله للخط العربي بأصالته المكتسبة من فنون مدارس تعليم القرآن في السودان، وقد تأثر في ذلك بمجموعة فنانين سودانيين. وتأثر في المرحلة الثانية (1990-1986) بالأعمال التي كانت شائعة في عصر النهضة، خاصة إنتاج الأعمال الزيتية، حيث تعلم هذه التقنية التي تعتمد على غمر المساحات اللونية بصور متواترة في مرحلة إنجاز اللوحة، وأثر الضوء والظل في المساحات الكبيرة مع احتفاظه بالأشكال المنجزة والألوان من المرحلة السابقة. وتميزت هذه المرحلة بتحوّل أعماله إلى درجة عالية من النضج والإحساس الراقي، خاصة في مجموعة “ذكريات الطائر المهاجر 1989” في الرجوع بالأحلام والذكريات إلى الزمن الماضي. أما المرحلة الثالثة (1990–1993) فقد أسماها “فترة الشغف باللون”، حيث يقول عن هذه المرحلة “أحيانا تصبح علاقتي بالتقنيات وأساليب وأدوات الرسم مصدرا لإحساس غامر بالقلق، وأحيانا بالرضا. وأعمل بفكرة التجريب المستمر للتقنيات واكتشاف إمكانياتي في التعبير بحرية. وأعود مفتونا بالألوان التي تشكل أهم صفة في عملية إبداع اللوحة عندي. أنا لا أؤمن بالتصوّر الغربي لنجاح الفنان بالتزامه بطريقة أو أسلوب واحد يميزه طيلة حياته، فأنا أعتبر نفسي في حالة بحث وتغيير مستمرة، وأنتج ما يعجبني في اللحظة وبالأسلوب الذي أحبه. الفن عندي حالة إنسانية”. هذا وأصدرت هيئة البحرين للثقافة والآثار على هامش معرض “ما وراء الصمت” كتابا خاصا بالمعرض يوثق مراحل تكوّن تجربة الفنان راشد دياب، متوقفة عند دوره في تطوّر المجتمع السوداني ثقافيا واجتماعيا. ويشمل الكتاب مجموعة واسعة من صور أعمال الفنان السوداني تمثل مختلف الفترات الزمنية في مسيرته الفنية.
مشاركة :