انطلاقا من أوائل سبعينات القرن العشرين تواصل تجربة الشاعر والناقد العراقي الدكتور علي جعفر العلاق العطاء إبداعا ودراسة ونقدا وحضورا فاعلا متميزا في الحراك الثقافي العربي، فقد قدم للشعر العربي اثنتى عشرة مجموعة شعرية شكلت خصوصية في سياق التجربة الشعرية العربية، استحق بها جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في حقل الشعر، الدورة السادسة عشرة 2018 – 2019. وفي النقد قدم العلاق ما يزيد عن ست عشرة دراسة جلها كانت حول الشعر والرواية، وقد كانت تجربتاه الشعرية والنقدية موضع اهتمام الكثير من النقاد والدارسين، وكُتِبتْ عنهما اثنتى عشرة رسالة وأطروحة للماجستير والدكتوراه، في الجامعات العراقية والمصرية والأردنية. هذا بالإضافة إلى عمله الأكاديمي ومشاركته عضوا في العديد من لجان التحكيم الشعرية والنقدية العربية منها مثل جائزة الملك فيصل، وجائزة الشيخ زايد للكتاب، وجائزة الشعر العربي، القاهرة. الشعر والإيقاع بداية يلقي العلاق الضوء على المراحل المفصلية في مسيرته الممتدة تقريبا على مدار أكثر من أربعين عاما، يقول “حين أتحدث عن مفاصل دالة في تجربتي الشعرية فلا يمكنني أن أتجاوز مجموعتي الأولى ‘لا شيء يحدث .. لا أحد يجيء‘ الصادرة عام 1973، التي فاجأت الكثيرين بما جاءت به من جرأة في اللغة، وخرق للمألوف في بناء الصورة. هذه المجموعة التي وصفها الشاعر فاروق يوسف بأنها فتح في الشعرية العراقية. والمفارقة أنها صدرت في حمى الصراع من أجل قصيدة المعنى، والموضوع، والفكرة”. يضيف الشاعر “كان الهتاف اليساري والهتاف القومي كلاهما يملأ المشهد الشعري في العراق. في ذلك الجو كنت أسعى، ومنذ البدايات، إلى قصيدة خاصة كانت تبالغ أحيانا في تجريبها اللغوي، ومجافاة المعنى الأيديولوجي. كنت، كما قال الراحل فوزي كريم، لا ألتفت إلى الآخرين، بل أعود باللغة إلى براءتها الأولى لتكون أشد بدائية. وهكذا حملت تلك المجموعة الكثير مما يشير إلى القصيدة التي أسعى إلى كتابتها. وظللت، في المجموعات التالية، أحاول بإصرار تعميق ما بدأته في المجموعة الأولى. وهنا يمكنني الإشارة إلى مجموعات بعينها لأنها ساهمت في تقريبي من قصيدتي التي تمثلني إلى أكبر حد ممكن: في مجموعتي الثانية ‘وطن لطيور الماء‘ 1975 مثلا، بلغ شغفي الصوفي بالطبيعة ذروته. بينما مثلت ‘أيام آدم‘ انعطافة إلى الحقيقة الكونية القاهرة من خلال الجسد وسطوة الزمن عليه”. أما مجموعته “ممالك ضائعة” فيرى العلاق أنها تمثل صرخته الكبرى وهو يرى الجمال يتلاشى والفراديس تضيع تباعا، كما أن مجموعة “ذاهب لاصطياد الندى” تقطير للغة والتماعاتها البعيدة. بينما كان في”نداء البدايات” و”حتى يفيض الحصى بالكلام” ثم “وطن يتهجى المطر” كمن يستنهض شعرية الطفولة وتفاصيلها التي كانت ولا تزال تومض وتختفي في أقاصي الخيال والذاكرة. أما مجموعته الأخيرة “طائر يتعثّر بالضوء” فهي توسيع لمبنى النص وتعدد خصائصه الإيقاعية والدلالية. وحول رؤيته لحركة الشعر العربي انطلاقا من أن فترة السبعينات شهدت حالة تمرد على جيل الريادة بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وصلاح عبدالصبور، كما شهدت الثمانينات حالة تمرد أخرى متمثلة في قصيدة النثر.. والآن هناك حالة أقرب إلى الصراع بين أشكال القصيدة، يرى العلاق أن “حالة الصراع هذه بين الأشكال الشعرية ظاهرة لا تمت بصلة متينة إلى الإبداع الذي يتطلب، كما أعتقد، العمل على النص الشعري بكد ودراية ومحبة، بدلا من الصراع الذي يأكل كثيرا من عزلة المبدع وانصرافه إلى الاشتغال على مشروعه بعيدا عن الصخب وضجيج المناكفات”. ويتابع العلاق “إن قصيدة النثر، نص إبداعي حقيقي، ويمثل المنجز النثري لكتابها الموهوبين جانبا مهما من حيوية القصيدة العربية، غير أن الكثير مما يكتب تحت هذه اللافتة قد لا يكون قصيدة نثر حقيقية، بل هو نثر جميل، لكننا قد نجد نظائره في أي نص إبداعي آخر، أقول هذا الكلام وأنا من الذين احتفوا بقصيدة النثر، ممثلة بنماذجها المتقدمة، وقد كتبت في كتابي الجديد ‘المعنى المراوغ‘، عن اثنين من كتابها المميزين: سركون بولص وأمجد ناصر. وقبل هذا الكتاب كنت قد كتبت عن محمد الماغوط وميسون صقر”. ويشير العلاق إلى أن القول إن قصيدة النثر ممثلة للتمرد الشعري، أو ذروة الحداثة الشعرية قول يجافي الحقيقة، فهي ليست جديدة، على حداثة القصيدة العربية. إنها أقدم من قصيدة التفعيلة. فما كتبه أمين الريحاني وجبران خليل جبران مثلا، وهو التمهيد الأمثل لقصيدة النثر وإن كان بتسميات مقاربة كالنثر الشعري أوالشعر المنثور، سبق قصيدة التفعيلة، التي كتبها السياب وجيله، بفترة ليست قصيرة. ولا يرى العلاق في الإيقاع زينة أو حلية شعرية، مع أن الأمر قد لا يكون كذلك لدى البعض من كتاب قصيدة التفعيلة. لذلك فإن الإيقاع مكون شعري وبنيوي، يدفع بالنص إلى نضجه الجمالي والدلالي وتماسك نسيجه. وفي المقابل فإن كتابة القصيدة بالنثر لا تضمن مستوى شعريا عاليا بالضرورة. بل يتوقف ذلك على قوة الموهبة ووعي الشاعر بلعبة البناء الشعري واشتراطاته الصعبة. حركة النقد عن تأثير دراسته الأكاديمية ودراساته للشعرية العربية وانشغالاته الأكاديمية وبالعديد من المهام كرئاسة تحرير مجلة أقلام وغيرها على تجربته الشعرية سواء سلبا أو إيجابا، يؤكد العلاق أن “البحث النقدي في الشعرية العربية، أو التأمل في تحولاتها جعلني على تماس دائم مع جزئيات العمل الشعري وديناميكية حركته، وزودني بالوعي التفصيلي به مما ترك النوافذ مفتوحة، وتبادل الخبرة قائما بين ما أكتبه وما أكتب عنه”. ويفسر العلاق ظاهرة الجمع بين الشعر والأكاديمية والتي تكرّرت مع شخصيات: أدونيس، عبدالعزيز المقالح، سلمى الجيوسي ونازك الملائكة وعبدالله الغذّامي وغيرهم، لافتا إلى أن “هذه الظاهرة كانت ترافق الآداب في كل زمان ولدى الأمم جميعا. وهي ناتج طبيعي بل حتمي لعملية الإبداع ذاتها، فهذه العملية تخلف في النفس الكثير من الأسئلة، والتأويلات والتصورات، ووجهات النظر حول الموهبة، والإبداع، ومحفزات الكتابة. وذلك كله يدفع بالشاعر إلى الكشف عنها عن طريق الكتابة النقدية. إضافة إلى ذلك فإن القصيدة لا تتسع للكثير من هذه الأفكار نظرا إلى استخدامها لغة خاصة، تضيق بالشرح والتعليل المنطقي، وتقوم على الإيجاز والتورية والاستعارة. وهكذا يرحّل الشاعر هذا الفائض عن قصيدته إلى لغة أخرى، هي لغة النقد ليقوم هذه المرة بدور نقدي بعد أن كان يقوم بدوره شاعرا”. ويرى العلاق أن المشهد النقدي العربي لا يمكن الحديث عنه في هذا الحيز الضيق، كونه مشهدا مركبا وعلى شيء من التعقيد؛ رؤى متباينة، اتجاهات لا رابط بينها، أجيال تتصارع، منهجيات شتى. ويوضح “لا شك أن هناك أسماء نقدية لافتة في مشهدنا النقدي، غير أن الحديث عن جيل من النقاد يبدو حديثا مفرطا في التفاؤل، لأن مصطلح الجيل لا يقوم إلا على المشتركات من الرؤى والمناهج والمقاربات التي لمسناها عند الكثيرين من نقاد الأجيال السابقة”. وحول رؤيته لمتابعة حركة النقد تجليات الحركة الشعرية وبشكل خاص قصيدة النثر وموقفه من حضورها الواسع بين مختلف الأجيال الشعرية يلفت العلاق إلى أن “النقد لا يفعل ذلك دائما. فهو، في الغالب، نقد مكتف بذاته، ومفتون بالحديث عن نواياه ونرجسياته برطانة يتعذر فهمها أحيانا. وربما يمكنني القول إن لقصيدة النثر حظوة أكبر لدى النقاد، إما لأن الحديث عنها يصعب التثبت منه كالرقص في الظلمة، وإما لأنه لا يخلو من شبهة المجاملة أحيانا. أما قصيدة الوزن، فانفض عنها الكثير من النقاد، لأن الحديث عنها يتطلب من الناقد الوعي بالإيقاع، ونظام التقفية، والتوازنات التركيبية، والتنوع الإيقاعي، ولعبة البحورالمركبة، والطاقة الصوتية للغة. أخشى أن أقول إن كتابة النصوص النثرية أوالكتابة عنها، صارت مهمة سهلة كما يبدو لدى نقاد كثيرين. فهي تكاد تكون كتابة إيمانية، تبشيرية، دون براهين نصية في أحيان كثيرة”.
مشاركة :