شكّل الاعتداء على صحيفة شارلي ايبدو في يناير 2015 انعطافا في استراتيجية مكافحة الإرهاب الأوروبية حيث أيقظ الهجوم الدموي الذي قتل فيه 12 صحفيا ورسامي كاريكاتور، مخاوف الاتحاد الأوروبي من تنامي التطرف الديني وانتشار التشدد على نطاق واسع في الفضاء الأوروبي. ودفعت تلك المخاوف دول الاتحاد الأوروبي إلى مراجعة قوانينها وزيادة التنسيق بين أجهزتها على ضوء ثغرات أمنية وقانونية سهّلت تحركات متشددين دينيا. وكانت عملية تصفية هيئة تحرير "شارلي إيبدو" بصورة شبه كاملة في السابع من يناير 2015 أول اعتداء بهذا الحجم تنفذه مجموعة متمركزة في عاصمة غربية هي بروكسل، لضرب عاصمة غربية أخرى هي باريس. وجاء الاعتداء على الصحيفة الفرنسية بعد هجوم نفذه مهدي نموش ضد المتحف اليهودي في بروكسل في أبريل 2014، وشكل فاتحة لسلسلة دامية بلغت ذروتها مع اعتداءات متزامنة في 13 فبراير أوقعت 130 قتيلا و350 جريحا في باريس وسان دوني بضاحية العاصمة الفرنسية. وازدادت الحاجة إلى تنسيق أمني مع اعتداءات نوفمبر فيما تنامت وتيرة تجنيد المتطرفين وحالة الاستقطاب على منصات التواصل الاجتماعي للالتحاق بصفوف تنظيمات ارهابية وأدركت أجهزة الأمن الفرنسية والأوروبية في تلك الفترة السوداء أن التهديد اتخذ بعدا مختلفا، في الوقت الذي أثار فيه الهجوم حينها تعاطفا هائلا في فرنسا والعالم، وأطلق شعار “أنا شارلي” دفاعا عن حرية التعبير. وقال الباحث في معهد "إيغمون" في بروكسل توما رونار إنه في العام 2015 "حدث ذلك الدفع الذي أتاح إعادة تحديد ظاهرة التطرف بشكل أوسع، مع زيادة التعاون بين أجهزة الاستخبارات والأمن"، مضيفا "انتقلنا من منطق الحاجة إلى المعرفة وإلى منطق الحاجة إلى التقاسم". وتقول الحكومة البلجيكية إنها طرحت منذ يناير 2015 ثلاثين إجراء ضد الإرهاب والتطرف باتت معظمها مطبقة اليوم، ومن بينها حجب رسائل الكراهية ومراقبة الأفراد الذين قد يطرحون خطرا وتعزيز الوسائل في متناول أجهزة الأمن وتكثيف التحرك الدولي. كما أدت الأزمة إلى استحداث "السجل الأوروبي لبيانات المسافرين جوا" عام 2016، وهو ما يفرض على شركات الطيران إبلاغ بيانات ركابها إلى الدول المعنية على أن يتم تقاسمها. ودعت فرنسا وبلجيكا في يونيو 2019 إلى إنشاء سجل مماثل لركاب السكك الحديد. ورأت المتحدثة باسم الشرطة الأوروبية كلير جورج أن إنشاء "مركز مكافحة الإرهاب" التابع للشرطة الأوروبية (يوروبول) في يناير 2016 مرتبط بالاعتداء على "شارلي إيبدو". وأوضحت أن باريس وبروكسل طلبتا المساعدة في تحليل البيانات العابرة لحدود الدول، فأرسلت يوروبول عددا من الخبراء. وقالت "على هذا الأساس أنشأنا المركز الذي يضم اليوم مئات من ضباط الشرطة أرسلتها إداراتهم إلى لاهاي للمساهمة في عمليات الاستخبارات لمكافحة الإرهاب". وفي مبادرة أخرى، أنشأ الأوروبيون عام 2016 منصة لتبادل المعلومات حول الإرهاب داخل "مجموعة مكافحة الإرهاب" التي تضم بصورة غير رسمية ثلاثين جهاز استخبارات أوروبيا. وقال مصدر في وزارة الداخلية الألمانية إن منصة التبادل هذه "تهدف إلى تبسيط وتسريع تبادل المعلومات بين الأجهزة الأمنية" وتضم قاعدة بيانات حول "المقاتلين الأجانب". وأكد المصدر أنه "من المهم أن يجري تبادل المعلومات بشكل متواصل حتى نتمكن من رصد أي قصور محتمل في الوقت المناسب والاستجابة للتطورات الحاصلة". وبعد مضي خمس سنوات على هذه الاعتداءات لا يزال الخطر قائما. وقال المحلل في شبكة "غلوبال ستراتيجي نتوورك" ريتشارد باريت بهذا الصدد إن الأوروبيون يسلمون بأن "الأمن مسألة جماعية ولا يمكن التعاطي معها على المستوى الوطني" فحسب. ولا تقوم الأجهزة من حيث طبيعتها بتقاسم المعلومات بشكل تلقائي، فالثقافات ليست موحدة والثقة ليست معممة، وهذا ما يجعل التعاون الثنائي بتقدم دائما على التعاون المتعدد الأطراف. وقال باريت بهذا الصدد "كان هناك على الدوام توتر بين مختلف الأجهزة سواء على الصعيد الوطني أو على الصعيد الأوروبي وهذا مستمر حتما ولكن بقدر أقل بكثير من قبل وخصوصا في مسائل الإرهاب". وأوضحت قاضية فرنسية طلبت عدم كشف اسمها أن الاعتداء على شارلي إيبدو "أحدث صدمة وأثار تصميما فوريا على تكثيف التعاون وجعله أكثر سلاسة وأثبت أن ذلك ممكن حتى في وسط حالة طارئة". وتحدث لوي غوتييه رئيس المديرية العامة للدفاع والأمن القومي في حكومة مانويل فالز آنذاك عن تحول في فرنسا، متابعا "انتقلنا من مشكلة أمن داخلي إلى مشكلة أمن قومي". وقال غوتييه "كانت الأجهزة تتنافس أحيانا ولا تتقاسم المعلومات في ما بينها بشكل جيد بذريعة حماية مصادرها"، لكن بعد الاعتداء على شارلي إيبدو، طلب على حد قوله من جميع الدوائر العمل معا. وأدرك الأوروبيون أيضا هذا الواقع الجديد الذي ظهرت معه متطلبات جديدة، وتجلى الأمر رمزيا في مسيرة في 11 يناير في باريس تقدمها عشرات رجال الدولة من العالم بأسره. وأدركت فرنسا التي هزتها الاعتداءات، أن التهديد الجهادي قد اتخذ مسارا جديدا. وتبين لها أن الأخوين كواشي تمكنا من تنسيق هجماتهما مع أميدي كوليبالي الذي التقياه في السجن بعد أن سادت نظرية “الذئب المنفرد” الخادعة والمرتبطة بهجمات محمد مراح في عام 2012. وأكدت الأشهر التي تلت الاعتداء على "شارلي إيبدو" بدء مرحلة جديدة بعد دعوات تنظيم الدولة الإسلامية لضرب فرنسا، اذ تعرض ثلاثة جنود للطعن في نيس (جنوب شرق) أمام مركز للجالية اليهودية في شباط، وفي نيسان، تم القبض على طالب كمبيوتر يشتبه في أنه خطط لهجوم على كنيسة في مدينة فيلجويف بالقرب من باريس ، بعد أن قام بقتل امرأة في مرأب للسيارات. وفي نهاية حزيران، قام سائق بقطع رأس مديره وعرض رأسه أمام مصنع في منطقة إيزير (شرق فرنسا). وفي آب تم تفادي مجزرة كبيرة على متن القطار السريع الذي يربط باريس بأمستردام، عندما تمكن الركاب من السيطرة على رجل مغربي مجهز برشاش كلاشينكوف وكان ينوي فتح النار عليهم. واختتمت سلسلة الأحداث المأسوية بأكثر الهجمات دموية على الإطلاق، مساء يوم 13 نوفمبر، عندما قامت ثلاث مجموعات مسلحة بتنفيذ هجمات متزامنة في ملعب “ستاد دو فرانس” في شمال العاصمة الفرنسية وفي حانات ومطاعم وفي قاعة “باتاكلان” للعروض الفنية في وسط باريس وأسفرت هذه الهجمات عن مقتل 130 شخصا. وأعلنت فرنسا التي شهدت أكثر الاعتداءات دموية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حالة الطوارئ، ومددتها حتى تشرين الثاني قبل أن يتحول جزء منه إلى قانون. واستمرت الاعتداءات منذ ذلك الحين وما زال “التهديد الإرهابي كبيرًا” بحسب الاستخبارات الفرنسية. وبعد خمس سنوات من تلك الاعتداءات الإرهابية، حوكم أربعة عشر شخصا، بشبه تقديم الدعم اللوجستي للأخوين كواشي وأميدي كوليبالي، في باريس أمام محكمة جنايات خاصة بين مايو ويونيو 2019.
مشاركة :