بمناسبة الملّاس.. عالمي يتداعى

  • 1/11/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

أصابتني بدايات الخمسين الثانية من عمري، على الأرجح، بحكمة جعلتني أرصد الخمسين الأولى. وفي الرصد أكتشف أن عالمي يتداعى، وأنني عشت عدة أعمار، ولو خيّرت الآن لتمنيت العيش في المستقبل؛ فلا أشعر بحنين إلى أمس قاسٍ متقشف لا يحتمله أبناؤنا. وهؤلاء يغيب عنهم عالم كامل له تفاصيل ومفردات لم تعد تدلّ على شيء. تزامن تجريف الزراعة مع إزالة السواقي بما كانت تعنيه من انتظام "الدور" في ريّ الأرض، بتسلسل ونظام منضبط. وكانت أراضي كل قطاع، وفقا لصرامة الدورة الزراعية، تزرع بمحصول واحد، وتُرشّ بالمبيد نفسه، قبل فوضى تجاوُر محاصيل متناقضة في احتياجها إلى المياه، واختلاف المبيدات، فتنوعت الآفات، ولا تتخلص الزروع من بقايا مبيدات تدخل في نسيج الثمار. اختفت السواقي ومفردات مكوناتها من الحديد والأخشاب والحبال، وقبلها اختفى الشادوف والطنبور، وانقرضت مهنة نجار السواقي، ولم يبق لكثير من أدوات الفلاحة ذكر، باستثناء "البردعة" التي يتعافى عليها العاجز عن محاسبة الحمار، أما "الغبيط" الذي كان يُحمل فيه السباخ والتراب، فذكّرني به امرؤ القيس في معلقته "قفا نبكِ مـن ذكرى حبيب ومنزل"، إذ تسلل إلى خِدر (هودج) عنيزة التي "إلى مثلها يرنو الحليمُ صبابة": تقول وقد مال الغبيط بنا معا/عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزلِ. شكرا لامرئ القيس على حفظ "الغبيط" الذي يجهله الآن أبناء الفلاحين. وتحية للدكتور محمد عبدالباسط عيد مؤلف كتاب "الخطاب النقدي.. التراث والتأويل"، وقد نبهني إليه بلوغه القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد 2019. الكتاب مفاجأة سارة، ولم أكن أعرف مؤلفه باعث الفرح، فرح اكتشاف عقل جميل. وأراهن عليه مع نقاد شبان، أقل من أصابع اليد الواحدة، في إنجاز تيار نقدي جاد. الدكتور عيد يقرأ بمحبة جانبا من التراث، ويورد ألفاظا كأنها تُخترع الآن، فابن قتيبة الدينوري يتكلم عن الخيل "والحصا الذي تنْجله بأرجلها". وإلى فعل "نجل" ينسب عشب ملاعب كرة القدم، وعليه يقام أكبر بيزنس رياضي. وأبوعثمان الأشنانداني يفسر وصف الشاعر للسهم "وخلّقْتُه حتى إذا تمّ واستوى" قائلا: "خلّقْتُه: أي ملّسْتُه"، والكلمة الناعمة كافية لاستدعاء سياق خشن عنوانه "الملّاس" لا أعاده الله. وكنت أظن الكلمة عامية، وكم شقينا مع الملاس المصنوع من قشّ الأرز، ويجرّه فلاح عفيّ أو حمار، في قناة بها ماء؛ لكي "يملّس" الثقوب والجحور، يسّدها فتندفع المياه ولا تنشع على الجانبين. وبعد انتهاء مهمة الملاّس يصير القش كتلة من الطين، وصالحا للاستعارة. عالمي يذوي، ولا أحب ادّعاء الحكمة، فأحتمي برباعية لصلاح جاهين: في يوم صحيت شاعر براحة وصفا الهمّ زال والحزن راح واختفى خدني العجب وسألت روحي سؤال أنا متّ؟ ولا وصلت للفلسفة؟

مشاركة :