باستثناء تركيا، باعتبارها شريكا في هندسة الإدارة السياسية لحكومة فايز السراج في ليبيا، فإن مذكرة التفاهم التي وقعتها هذه الحكومة مع الحكومة التركية لاقت انتقادات ورفضا من مختلف الدول ذات العلاقة بالأزمة الليبية، سواء من جانب الغالبية الساحقة من الدول العربية وفي مقدمتها مصر لكونها أكثر دولة عربية مهددة بسبب تفاقم الأوضاع الأمنية في ليبيا والتدخلات الخارجية وعلى رأسها التدخل التركي، أو من جانب دول أوروبية ذات ثقل كبير في هذه الأزمة مثل فرنسا وإيطاليا. في الوقت نفسه عبرت الولايات المتحدة الأمريكية كذلك عن انتقادها لهذه المذكرة واعتبرتها مخالفة للقانون الدولي إلى جانب انتقادها التدخل العسكري التركي في الأزمة الليبية. معظم الأطراف التي تتصارع الآن على الساحة الليبية، أعني بذلك الأطراف الإقليمية والدولية، تتحمل جميعها وبنسب متفاوتة مسؤولية ما يعيشه هذا البلد العربي من أوضاع صعبة، ذلك أن هذه الأطراف هي التي استخدمت كل الدهاليز والمنصات السياسية والدبلوماسية، الإقليمية منها والدولية، إلى جانب العسكرية؛ لإيصال الأوضاع إلى ما هي عليه الآن بعد أن اجتمعت كلها من أجل الإطاحة بنظام العقيد الليبي الراحل معمر القذافي تحت ذريعة توفير «الديمقراطية والعدالة الاجتماعية للشعب الليبي»، وهي نفس الذرائع والحجج التي استخدمتها العديد من الأطراف الإقليمية والدولية لتخريب سوريا ومن قبلها دول عربية أخرى. الأزمة الليبية لم تكن بالأساس أزمة داخلية تخص الشعب الليبي، بل هي بالأساس أزمة مفتعلة تحت الذرائع السالفة الذكر، ومع الأسف فإن فئات من أبناء الشعب الليبي وقعوا في فخ الشعارات والوعود الجميلة، كما هو حال فئات من أبناء الشعب السوري، وكما تحولت الأزمة السورية إلى أزمة إقليمية ودولية، فإن الأزمة الليبية هي الأخرى أخذت هذا المنحى، بل هي مرشحة لأن تتحول إلى أزمة إقليمية خطيرة تنذر بإمكانية حدوث مواجهة بين قوى إقليمية، وخاصة بعد الدخول التركي العسكري المباشر على خط الأزمة بهدف ترجيح كفة فريق من فرقاء الصراع الداخلي الليبي على حساب فريق آخر. فالتدخل التركي، الذي تضفي أنقرة الصبغة الشرعية عليه مستندة على مذكرة التفاهم التي وقعتها مع حكومة السراج، فتح أبواب الأزمة على العديد من الاحتمالات، ليس فقط لأنه يمكن أن يغير من موازين القوى أو يعزز موقف طرف ضد آخر، وإنما لأن هذا التدخل فيه تهديد مباشر للأمن الوطني لدول الجوار الليبي، وخاصة مصر التي لوحت أكثر من مرة بأنها لن تقف مكتوفة الأيدي إذا ما تسبب هذا التدخل في تهديد جدي لأمنها القومي، أضف إلى ذلك فإن تركيا بتدخلها العسكري تستخدم الأزمة الليبية في إدارة خلافاتها وصراعها مع العديد من الدول الإقليمية. تركيا بالأساس تتحمل مسؤولية مباشرة عن الأوضاع التي تعيشها ليبيا منذ إسقاط العقيد معمر القذافي، فأنقرة شاركت بشكل مباشر عسكريا في الحرب التي شنت ضد نظام العقيد إلى جانب دول إقليمية ودولية، ولها حساباتها السياسية من وراء تأكيد حضورها في هذه الأزمة وتطوره إلى التدخل المباشر رغم الاعتراضات الإقليمية والدولية، بل من الداخل الليبي أيضا؛ إذ إن مذكرة التفاهم التي وقعتها مع حكومة السراج لا تحظى بدعم وقبول فئات واسعة من القوى في ليبيا، في مقدمتها البرلمان المنتخب من قبل أبناء الشعب الليبي. أنقرة من منطلق حساباتها السياسية التي تعتبرها جزءا من مصالحها القومية وأمنها الوطني لا تأبه لمثل هذه الاعتراضات والرفض، سواء من قبل الدول والمنظمات الإقليمية والدولية، أو من جانب ممثلي الشعب الليبي، ولم تعر أي اهتمام لمواقف الجامعة العربية التي أكدت رفضها أي تدخل خارجي في الأزمة الليبية واعتبرتها مسؤولية عربية بالدرجة الأولى، فتركيا حسمت أمرها فيما يتعلق بالأزمة الليبية، والخوف كل الخوف أن يتحول الحضور التركي في هذه الأزمة إلى ما يشبه «الحضور» التركي في قبرص الذي مضى عليه ما يقارب خمسة عقود، والذي لا يمكن وصفه إلا بأنه شكل من أشكال الاحتلال. في ظل هذا التشابك الإقليمي والدولي في الأزمة الليبية فإن الشعب الليبي هو المتضرر بالدرجة الأولى بكل تأكيد، وهو الذي يدفع ثمن ذلك مباشرة، سواء من أرواح أبنائه أو من ثرواته الطبيعية التي هي بالمناسبة أحد أهداف التكالب على ليبيا، إلى جانب ذلك فإن الطرف العربي هو الآخر سيكون الخاسر من هذا التشابك باعتباره الأضعف إرادة في اتخاذ الخطوات العملية التي تعيد الأزمة الليبية إلى مكانها الصحيح؛ أي إلى البيت العربي، المعني مباشرة قبل غيره بإيجاد الحلول وتسوية الأوضاع في ليبيا أو في غيرها من الدول العربية التي قد تعاني الوضع نفسه، لأن الضعف العربي هو المشجع الأول للأطراف الأخرى، ومنها بطبيعة الحال تركيا، على التدخل المباشر في قضايانا الداخلية.
مشاركة :