تمر الذكرى التاسعة للثورة التونسية في أجواء تمتزج فيها الاحتفالات والمخاوف لدى التونسيين مما قد تحمله المرحلة المقبلة من متغيرات محلية وإقليمية. فهل يملك الرجلان القويان قيس سعيد وراشد الغنوشي وصفة تبعث الأمل في الشباب؟ الرئيس التونسي قيس سعيد وراشد الغنوشي زعيم حركة النهضة كان لافتا حضورالرئيس قيّس سعيّد في ذكرى 17 ديسمبر/ كانون الأول إلى سيدي بوزيد التي انطلقت منها الشرارة الأولى للثورة التي أشعلها إقدام البائع المتجول محمد البوعزيزي على حرق نفسه. وبخلاف الأجواء الاحتجاجية والعنيفة أحيانا، التي عاشتها تونس في معظم مناسبات الاحتفال بذكرى الثورة في السنوات الماضية، يبدو أن الشباب في تونس هذا العام يفضل الانتظار لما ستسفر عنه المعادلة السياسية الجديدة التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة، والدور المنتظر لشخصية الرئيس قيس سعيد الذي فاز في الانتخابات بأغلبية ساحقة (73 في المائة)، الذي حوّل بفضل شعبيته الواسعة صلاحياته المحدودة دستوريا إلى حامل لتطلعات الشباب الذين صوتوا له بنسبة كبيرة. وها هي الطبقة السياسية بدورها تفشل في التوصل إلى تشكيل حكومة ائتلافية، فتطرق باب قصر قرطاج بحثا عن حل يصطلح عليه في القاموس السياسي التونسي الجديد بـ"حكومة الرئيس". بعد أن فشل حزب"النهضة" الإسلامي، متصدر الأحزاب في البرلمان، في تشكيل حكومة جديدة. ومن المفارقات أن الصلاحيات الدستورية المحدودة للرئيس قيس سعيد وعدم توفره على حزام سياسي حزبي في البرلمان، ستتحول من نقاط "ضعف" إلى مصدر لقوة سياسية رمزية، يحتاجها التونسيون في هذه الفترة التي تشهد انقساما كبيرا في طبقتها السياسية وتشتتا في الخارطة السياسية بالبرلمان. في مدينة سيدي بوزيد مهد الثورة التونسية، أقيم نصب تذكاري لمحمد البوعزيزي وفي انتظار اكتمال الضلع الثالث لمؤسسات الحكم في تونس، أي رئيس الحكومة الجديد، يجد الرئيس سعيد في مقابله على رقعة الشطرنج راشد الغنوشي السياسي المخضرم زعيم حزب النهضة، الذي يتولى رئاسة البرلمان، والخارج لتوه مع حزبه من خيبة سقوط حكومته في امتحان الثقة بالبرلمان. لقاء في مفترق الطرق الرئيس قيس سعيد ورئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي، الرجلان تتقاطع اليوم أدوارهما في مفترق طرق وصل إليه كل منهما من مسار بعيد عن الآخر. الغنوشي زعيم حزب النهضة الإسلامي، الثمانيني المخضرم الذي تحمل تجاعيد وجهه تضاريس عقود من التجارب التنظيمية والحزبية والمعارك الأيديولوجية والسياسية ومحطات في السجون والمنافي. وقيس سعيد الستيني، الذي أمضى نصف حياته أستاذا للقانون الدستوري في الجامعة، والمستقل الذي أوصلته موجة غضب شبابي من المؤسسات والأحزاب إلى قصر قرطاج. وبقدر ما يبدو قيس سعيد عبارة عن صفحة "بيضاء" في السياسة التونسية فان الغنوشي يجر معه تركة ثقيلة من الخصومات الأيديولوجية والسياسية وتتربص به سهام خصومه حتى داخل حزبه. خيبة الغنوشي وحزبه في صيف العام الماضي فقد الغنوشي صديقه اللدود الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، الذي نسج معه خيوط اللعبة السياسية التي حكمت تونس خلال الولاية التشريعية السابقة (2014 - 2019) فيما يُعرف بسياسة التوافق الوطني أو "توافق الشيخين"، وهي سياسة جنبت مهد الربيع العربي الانزلاق إلى مسار عنيف. لكن سرعان ما انفرط عقد التوافق بين حزبي "النهضة" و"نداء تونس"، لتجد البلاد نفسها في دوامة جديدة من البحث المرير عن معادلة للاستقرار السياسي لتمكين فئات الشعب التونسي وخصوصا الشباب من جني ثمار ثورتهم في الميادين الاقتصادية والاجتماعية. ببراغماتية ودهاء نادرين في صفوف أحزاب الإسلام السياسي، تمكن الغنوشي من الحفاظ على مركزية دور حزبه في المعادلة السياسية التونسية خلال العقد الذي أعقب الثورة، ومنحه ذلك نفوذا سقط أمامه الخصوم والحلفاء من الأحزاب. لكن ضعف الحصيلة الاقتصادية والاجتماعية في هذه الفترة، جعلت الحزب وزعيمه في مرمى الانتقادات، وزادته خصوماته الايديولوجية وتحالفاته الإقليمية، أوزارا. بعد الانتخابات الأخيرة، أبرم الغنوشي صفقة مع خصمه نبيل القروي زعيم حزب"قلب تونس"، منحته رئاسة مجلس النواب. وبعد انتخابه على رأس البرلمان، صرح بأن السلطة التشريعية هي قلب النظام السياسي في تونس، وهو لم يكن مخطئا في ذلك، بحكم الطابع البرلماني للنظام السياسي الذي أقره دستور 2014. لكن الغنوشي بعد فشل حزبه في تشكيل حكومة جديدة، يبدو أضعف مما كان عليه في السابق. ويتفق المحللون بأنه تعرض إلى انتكاسة، يصفها خصومه بـ"الهزيمة المدوية". الجميع يخطب ودّه! وقد فتحت انتكاسة حزب النهضة من ناحية في ظهور ذئاب النظام القديم ومن ناحية ثانية في ارتفاع أصوات الأحزاب التي ترفع شعارات الثورة. وأمام الرئيس قيس سعيد الآن ثلاثة قوى متصارعة تخطب وِدَّه، وتقدم نفسها كمفاتيح لحل الأزمة السياسية التي تجتازها البلاد. فحزب النهضة متحالفا مع"إئتلاف الكرامة"، يقدم نفسه باعتباره الحزب الأول، وهو الذي منح أصواته لقيس سعيد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية. لكن خيبته في تشكيل الحكومة تضعف دوره. ويوجد على الجانب الثاني، حزبان من يسار الوسط، هما التيار الديمقراطي (ديمقراطي اجتماعي) وحركة الشعب (حزب قومي عروبي)، يعتبران نفسيهما "الأقرب" إلى تجسيد "التوجهات الثورية" للرئيس سعيد، ليس فقط لأنهما سانداه في الدور الثاني للانتخابات، بل أيضا لأنهما يرفعان بالخصوص شعار مكافحة الفساد، الذي شكل أولوية في حملة الرئيس الانتخابية. أما الطيف الثالث، فهو تشكيلة واسعة من الأحزاب المنبثقة من بقايا حزب التجمع الدستوري، المنحل، حزب الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وحزب الرئيس الباجي قايد السبسي "نداء تونس". وقد اغتنم نبيل القروي فرصة تعثر حزب النهضة لتشكيل جبهة نيابية تتألف من 93 نائب، وضم فيها حزب "تحيا تونس" الذي يتزعمه غريمه رئيس الحكومة المنتهية ولايتها يوسف الشاهد. ويقدم هذا الائتلاف الحزبي نفسه باعتباره "الحل الضرورة" الذي يمتلك رصيدا من خبرات الإدارة وتسيير الاقتصاد، التي يمكن أن يلجأ إليها الرئيس سعيد في اختيار رئيس حكومة جديد. ويعرف هذا التحالف بتغلغله في الدولة العميقة وتحالفاته مع جماعات المصالح ومراكز النفوذ المالي في الداخل والخارج. ويلتقي الفريقان الثاني والثالث في رفضها لقيادة حزب النهضة للحكومة سواء كانت بطابع إئتلافي حزبي أم بلون التكنوقراط الذي كان يجسده الحبيب الجملي، لكن أطروحات التكتلين وطموحاتهما تبدو متباعدة وهو ما سيجعل الرئيس سعيد أمام خيارات صعبة. لعبة معقدة ! تتساوى الكتل السياسية في البرلمان التونسي في عدم توفرها على نصاب يجعلها قادرة على تشكيل أغلبية لأي حكومة، ولأن تحالفا بين الفريقين الخصمين للنهضة قد يبدو بعيد المنال، فان ورقة النهضة تظل أحد المفاتيح في فك عقدة تشكيل الحكومة، ولذلك فان الغنوشي بالنسبة لخصومه، بمثابة "مُرِ الدواء" التي يتعين تجرّعها. منصف السليمي، صحفي خبير في الشؤون المغاربية بمؤسسة DW الألمانية بيد أن الرئيس سعيد يوجد في منطقة "مريحة" نسبيا، بسبب الصفحة البيضاء التي يدخل بها مربع الحكم، وعدم وجود صراعات بينه وبين أقطاب المشهد السياسي، وعلى رأسها الغنوشي. لكن ذلك لا يعني أنه سيكون مطلق اليدين في اختيار رئيس حكومة جديد. فالى جانب تعقيدات الخارطة السياسية، هنالك في الخلفية قوى وجماعات ضغط لها تأثير كبير فيما يجري في البلد، وضمن تلك القوى مركزية الإتحاد العام التونسي للشغل، وجماعات الضغط الاقتصادية والأمنية التي تمارس لعبتها من خلف الستار. ففي البلد الذي يواجه تحديات اقتصادية واجتماعية جمة وتتراكم مشاكل شبابه، تبدو الطبقة السياسية منقسمة وتهيمن على حساباتها الاعتبارات الحزبية الضيقة، يبدو الرئيس سعيّد في هذا الخضم كحامل لشمعة الأمل. لكن الخيارات المتاحة أمامه محدودة، ويطرح مراقبون في تونس فكرة تكليف رئيس وزراء بتشكيل حكومة وحدة وطنية لإنقاذ البلاد لمواجهة الأوضاع الداخلية الصعبة والتحديات الخارجية الكبيرة وعلى رأسها الأزمة الليبية التي تشكل بالنسبة لتونس بمثابة برميل بارود. ولأن سعيّد جاء من بعيد وبشعار "نظافة اليد" كبديل عن طبقة سياسية تغرق في الصراعات والانقسامات والفساد، فان المتوقع أن لا يسقط من حساباته محاولة حشر النخبة والمنظومة السياسية التي طالما حملها في خطاباته النارية مسؤولية الأوضاع التي آلت إليها البلاد، (أن يحشرها) في الزاوية. فالمشروع الذي يحمله الرئيس سعيّد يهدف إلى إعادة هيكلة شاملة للنظام السياسي ويصفه البعض بـ"الثورة الجديدة"، وقد تبدأ أولى خطواته بتشكيل الحكومة، كونها تفتح له الطريق لإعادة ترتيب العلاقة بين قصر قرطاج والقصبة (ترمز إلى مقر الحكومة)، باتجاه تقليص نفوذ قصر باردو( يرمز إلى مقر البرلمان) والغنوشي. وبعد صعود الدخان من قصر قرطاج بشأن ولادة حكومة جديدة، ستبدأ أوراق المرحلة الجديدة تتكشف شيئا فشيئا. وسيتبين ما إذا كان الرئيس سعيّد سينطلق من عدم منح البرلمان ثقته لحكومة الحبيب الجملي كانتصار للديمقراطية، ليقود سفينة الديمقراطية الناشئة إلى بر الأمان أم أنه سيسقط في الأفخاخ الكثيرة التي تُنصب لها في الداخل والخارج؟ منصف السليمي
مشاركة :