تكشف أحدث التصنيفات المنشورة بالتزامن مع الذكرى التاسعة لانتفاضة 14 يناير أن تونس تأتي في صدارة دول شمال أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط في الأعباء الضريبية إلى جانب كلّ من الجزائر وموريتانيا وجيبوتي، الأمر الذي يثير التساؤلات حول مآل تلك الأموال. ورغم ترسانة القوانين، التي تعزّزت خلال السنوات الماضية في هذا المجال، إلا أنها أتت بنتائج عكسية، كما أن الجهات الرقابية لم تتمكن من السيطرة على مكامن الخلل خاصة فيما يتعلق بالتهرب الضريبي، بينما لم يقف التونسيون حتى اليوم على مظاهر التطوير والإعمار. يقول صندوق النقد العربي في مذكرة نشرها على موقعه الإلكتروني إن تونس حققت معدلات أقل من المتوسط العالمي في هذا المجال. وتظهر بياناته أرقاما صادمة للوضع في البلاد، حيث تشكل الأعباء الضريبية على الأفراد والشركات نحو 20 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. ورغم ضغوط صندوق النقد الدولي على الحكومة التونسية لإتمام برنامج إصلاحات قاس تم الاتفاق عليه في مايو 2016، إلا أن السلطات قدمت في موازنة العام الماضي حزمة من الإعفاءات الضريبية للشركات الأجنبية وخفضت الضريبة على أرباح الشركات المحلية من 35 بالمئة الى 25 بالمئة. وفي حين يتحمل عبء الضريبة عدد محدود من الشركات نسبيا ويظل عدد من الشركات خارج دائرة الالتزام الضريبي، وفق خبراء صندوق النقد العربي، فإن إيرادات الضرائب على المداخيل الشخصية للأفراد تشكل نحو 72 بالمئة من حصيلة الضرائب السنوية. وتؤكد البيانات الحكومية الرسمية أن الضرائب تساهم بأكثر من نحو 60 بالمئة في تمويل موازنة الدولة سنويا، رغم أنه تم تخفيف هذا البند في موازنة العام الماضي. كما تشير معطيات وزارة المالية التونسية إلى أن مستوى التحصيل الضريبي ارتفع العام الماضي ليبلغ 23 بالمئة، مقارنة مع 19 بالمئة قبل الفوضى التي ضربت البلاد في 2011، مشكلا واحدا من أعلى المعدلات في أفريقيا. في المقابل، تراجع مستوى الادخار خلال نفس الفترة من 23 بالمئة إلى 13 بالمئة، الأمر الذي دفع تونس إلى اللجوء للتداين الخارجي لضمان تمويل الموازنة والسيطرة على العجز المتفاقم مع تواصل الجمود السياسي الذي يخنق التونسيين. ومع ذلك، فإن مسألة توظيف أموال الضرائب، والتي تقدر بملايين الدولارات سنويا، في التنمية وتوفير فرص عمل يبدو أمرا مثيرا للجدل بين التونسيين مع غياب التنمية المستدامة التي لطالما صدّع بها المسؤولون رؤوس المواطنين. وعند تسليط الضوء على حجم الضرائب، التي تجمعها تونس ولا يستفيد منها المواطنون بالشكل المطلوب يتأكد لدى المتابع أن هناك أمرين مهمّين قد يكونا عاملين رئيسيين في مدى سخط التونسيين، أولهما يتعلق باستمرار البيروقراطية والفساد في دواليب الدولة، والثاني يتعلق بسوء إدارة تلك الأموال. فمعظم الخبراء يؤكدون أن النظام الضريبي التونسي يشكو نقائص كثيرة بما في ذلك التشعب الإداري وتعدد القوانين، ذلك أنه تم اتخاذ أكثر من 500 إجراء ضريبي منذ 2011 وحتى 2018، وهو ما كبّل مناخ الأعمال وجعله طاردا للمستثمرين. إن هذا المعطى ينسجم مع مطالب المؤسسات المالية الدولية ووكالات التصنيف الائتماني حيث لطالما شدد الخبراء فيها بأن على صناع القرار التونسي تقييم الأعباء الضريبية دوريا وتأثيرها على الاستثمار ومدى تناسقها مع الإيرادات الضريبية للوقوف على قدرة النظام الضريبي على تحقيق أهدافه الكلية. ومن بوابة العوائد الضريبية تبدو تونس مضطرة للبحث عن نوافذ جديدة وفق معايير مستدامة لدعم خزينة الدولة ومواجهة الاختلالات المالية المتفاقمة. وهنا يشدّد خبراء صندوق النقد العربي على نقطة أخرى لا تقل أهمية تتعلق بمراعاة اعتبارات الكفاءة لطبيعة الأنشطة الاقتصادية المختلفة مع المساواة في توزيع الأعباء الضريبية واعتماد آليات أكثر شفافية بما يتيح زيادة العوائد الضريبية مستقبلا على أسس مستدامة. طيلة السنوات الأخيرة اتسع الجدل في تونس بشأن حاجة الدولة لتعزيز إيراداتها لمواجهة الاختلالات المالية المتفاقمة من خلال وضع حدّ للتهرب الضريبي الذي كبّد خزينة الدولة خسائر كبيرة منذ عام 2011 وفي ظل ضغوط داخلية وخارجية لاعتماد إصلاحات عاجلة. وكان مستشار رئيس حكومة تصريف الأعمال المكلف بالإصلاحات الجبائية فيصل دربال قد كشف العام الماضي أن حجم التهرب الضريبي بلغ 25 مليار دينار (8.3 مليار دولار) منذ العام 2011، وهي مستويات تنسجم مع تقديرات الخبراء. إن مشكلة تطبيق القانون خاصة ضد المتهربين ضريبيا لا يمكن حلها إلا من خلال تعزيز المراقبة الميدانية ومن الضروري اليوم حشد جميع الموارد البشرية واللوجستية والمعلوماتية لمواجهة التهرب الضريبي لتعزيز موارد الدولة الضعيفة وبحسب الأرقام الرسمية، فإن هناك 1600 مراقب فقط يتبعون لمصلحة الضرائب ربعهم لا يقوم بعمليات معاينة ميدانية، مما يعني أن 99 بالمئة من المؤسسات الاقتصادية والشركات لا تخضع للمراقبة الضريبية كل عام. وفضلا عن ذلك، هناك عوامل أخرى يبدو أن الحكومة مجبرة على الإسراع في اتباعها، وهي تبسيط الإجراءات المتعلقة بالتصريح على الضريبة عبر رقمنة التعاملات للابتعاد عن التعامل المباشر مع الإدارة لتكريس الشفافية والحدّ من ممارسات الفساد.
مشاركة :