صحيفة المرصد :"ألف لا شي له، والباء تحته نقطة"، ستسمعها بوضوح قبل 40 عاماً وأكثر في القديح، ولو فتحت باب منزل أم علوي بت سيد كاظم فستجد الصبية والفتيات ملتفين حولها لتُختِمهم بمساندة أبنائها الستة الذين تخرجوا من كنف رعايتها لمعلم الحارة. منزل أم سيد علوي ليس الوحيد في القديح تلك البلدة الصغيرة الواقعة شمال غرب مدينة القطيف، الذي ترددت فيه الأبجدية، ولو زرتها اليوم بعد هذه السنوات فسيلفحك عبق الماضي، وستستأنس برفقة كبارها قبل الصغار، لأنها ما زالت تحمل ذاك الطابع الذي تهفو إليه النفوس ببساطته، وحميمية أصحابه، فالحياة - التي أخذتنا جميعاً نحو تكنولوجيا خادعة تسمت باسم "التواصل الاجتماعي" وهي القاطعة له - لم تستطع أن تغير من القديح شيئاً، ولم تمس الألفة بين أبنائها، فالجار أخ الجار، والهم هو ذات الهم، ستجد تراص منازلها يحتم على سكانها أن يكونوا في منزلٍ واحد هو "القديح". المهندس محمد السيد طاهر يحكي كيف أن البيت العود ما زال قبلة أبنائه، على الرغم من ابتعادهم بالسكن خارجه، وكيف أن الحياة ببساطتها ما زالت تشد الجيل تلو الجيل ليحرصوا على التوجه إلى تلك القبلة التي جمعت كباره تحت سقفه يوماً، مرجعاً سبب حفاظ القديح على طابعها القديم أنها "قرية لم ينلها التوسع الذي نال غيرها، فهي ومنذ 30 سنة لم تزد مساحةً إلا بحدود 200 ألف متر مربع فقط، بينما نجد بعض البلدات قد ازدادت 100 ضعف المساحة خلال السنوات الـ 30 الماضية"، لافتاً إلى أن التغيير البسيط في المساحة الأصلية لم يأتِ على كامل الطابع القديم، وحتى مع خروج 50 في المائة من البلدة إلا أن ذلك الحنين يجرهم إليها دائماً، فتراهم أرواحا تحفها في كل مناسبة، وفي كل عيد، وفي كل فاجعة. ويبين السيد طاهر أن النخيل والمزارع ما زالت تحيط بمنازل القديح، حتى بعد هذه السنوات، وهي ميزة تحسب لها، إذا ما وجدنا بعض القرى والمدن تخلت عن ستارها الأخضر. وبحسب صحيفة الاقتصاديةيضيف أن القديح مرت بحدثين كبيرين، أحدهما حريق العرس الدامي، وحصاده 75 روحاً من أطفال ونساء، والآخر تفجير مسجد الإمام علي، مشيراً إلى أن أولهما أخف وجعاً من الأخير، لأنه "قضاء وقدر"، أما الثاني فهو جريمة هزت الوطن، هزت الإنسانية، فمن ذا الذي يجرؤ على قتل نفسٍ بغير نفس، متحدياً الله بفعلته، ومجاهراً بحقده ولوثة عقله، وهو ما زاد القديح تلاصقا وتلاحماً، بل زاد ارتباطهم بالأرض والوطن، في صورة عكست اللحمة الاجتماعية التي تعيشها القديح خصوصاً، والقطيف عموماً. ويشير السيد طاهر إلى أن الفاجعة جمعته بأصدقاء الطفولة، أصدقاء المدرسة، أصدقاء المصاب، فكانت الرسالة التي لامست قلبه "أنت لست وحدك"، ورغم الجراح ظل متماسكاً لأجل هؤلاء، على الرغم من أن من توفوا هم من أهله وقرابته. المؤرخ عبد الرسول الغريافي تحدث عن القديح تاريخاً وعراقة، عن مسماها الذي جاء من عيونها النابعة، فجاءت من القدح، لافتاً إلى أنها أكبر قرى القطيف منذ القدم، الأكثر حظاً فيها بالعيون والمياه، فحدودها بساتينها الغربية تتاخم البدراني الذي اتضح أخيراً أنه كان في بداية القرن الماضي أرضاً خصبة للأرز الأحمر المعروف بالهندية، إلى أن زحفت عليها الرمال في نهاية القرن التاسع عشر. ويضيف الغريافي أن القديح حظيت بكم هائل من البساتين تجاوز عددها الـ 400 بستان حسب إحصائيات الدولة، لذا فإنها كانت من أكثر القرى عرضة لغارات البدو عليها، ما حدا بأهلها أن يبنوا سورا حول منازل القرية التي بلغت في ذلك الوقت 350 منزلا. ويفيد بأنها من أكثر المناطق كثافة في السكان نسبيا على مستوى إحصائي عالمي وذلك منذ القدم حتى أيامنا هذه، إذ تجاوز الـ 60 ألف نسمة في هذه الأيام، مبيناً أن عمرانها الحديث تجاوز القديم في منطقة الوادي وهي أراض زراعية تعج بالزراعة وتعج بالمياه، إذ إن الوادي تصب فيه جداول مائية آتية من العيون فتشكل بحيرة تجف أطرافها صيفا فيستخرج منها الملح ثم تحولت الى أفدية وهي ساحات تنشر فيها التمور. ويذكر الغريافي أن سكان القديح في الأصل ينحدر نسبهم من مضر، ولنشاط أهالي سكان القديح منذ القدم أثر كبير في تحريك عجلة اقتصاد قريتهم، فقد كانوا من أفضل القرى حالا في مستوى المعيشة، وعليه فقد اهتموا بالتعليم ونشطت الحركة الأدبية والعلمية فظهر فيها كثير من علماء الدين والأدباء الذين ظهروا مع الرعيل الأول أمثال الشيخ علي البلادي القطيفي صاحب أنوار البدرين والشيخ محمد صالح القديحي والشيخ حسين القديحي، كما لا تزال الحركة العلمية مستمرة، وهي تنجب مثقفين على مستوى عال، إضافة إلى ظهور كثير من الكتاب حديثا أمثال الخطيب الأستاذ محمد الناصر والكاتب محمد علي الشرفاء، وهي التي اشتهرت بالجد في العمل والعلم وتوارث كثير منهم الذكاء الفطري، فخرجت وما زالت تخرج كثيرا من المتعلمين والمثقفين الكبار وأساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين. المؤرخ حسن محمد آل ناصر يبدأ حديثه عن القديح بوصفها أنها قرية مطوقة بالنخيل، كما قال عنها المستشرق نورمان دانيال، كما القلادة الملتفة حول جيد الفتاة، مبيناً أن مؤسسها هو مضر بن عبدالقيس، لذا ما زال البعض يسميها مضر، وذلك لأنه أول من بنى له بيتاً فيها، وكان ذلك قبل الإسلام بسنوات كثيرة، مشيراً إلى أن أبناء القديح يضرب بهم المثل في النخوة والشهامة، وعرف عنهم ذلك في الوقعات التاريخية التي عرفتها المنطقة، حتى إذا ما أردت أن تنتخي قديحياً فقل "يا عيال المضر"، مضيفاً أن بساطتهم، ونخوتهم ما زالت حاضرة، فستجد القديحي يهب لنجدة الآخر ويقف معه حتى وإن لم تجمع بينهم الأيام يوماً، ولو شب حريق في البلدة فالدفاع المدني لا حاجة إلى وجوده، بوجود أبنائها متكاتفين. ويبين آل ناصر أن البلدة مقسمة إلى أربعة أفرقة، الشمالي، والجنوبي، والشرقي، والغربي، في حين إن حرفها قديماً اقتصرت على الصيد، والفلاحة، والأخيرة ما زالت متوارثة لليوم وهي ميزة تحسب لأهالي القديح، وتؤكد ارتباطهم بالأرض، كما أنها البلدة الأولى في مجال الطباعة الحجرية، باستباقها بقية البلدات في مجال المنشورات والمطويات والكتيبات. ويستذكر آل ناصر تاريخ مسجد الإمام علي -كرم الله وجهه- الذي شهد الإرهاب الداعشي أخيراً بأنه أسس عام 1400 وافتتح في عام 1402 هـ، أصله نخيل وتحول ما يحيطه إلى مكان للسكنى، وهو المسجد العاشر بين 11 مسجداً في القديح كان آخرها مسجد الشهداء الذي حل مكان فاجعة العرس. قائلاً إنها ليست المنطقة الوحيدة التي تحولت إلى مدينة سكنية بحكم ما تفرضه الاحتياجات، فهناك السوق الرئيسية التي كانت تقع على مساحة ضخمة، واكتمل عليها العمران حالياً، كما أن بعض الأحياء فيها عرف بمسميات، لكنها أخيراً تغيرت بتغير طبيعة المكان، مثل ذلك حي المهنا، الذي لم يبق من اسمه إلا مسجده. من آثار البلدة التاريخية سد القديح الشهير حيث اعتاد أهالي البلدة المشي بمحاذاته
مشاركة :