محاكمة عاشق القاصرات ماتزنيف مناسبة لمحاكمة حقبة أدبية فرنسية كاملة

  • 1/18/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لم تعرف فرنسا نقاشا حادا يستحضر موضوع الأدب بعلاقته بالجريمة كما تشهده الآن. إنه النقاش الذي بدأ مع صدور كتاب “الموافقة” للناشرة الفرنسية فانيسا سبرينغورا، الصادر في بداية الشهر الجاري عن دار كرايس، والذي تعود فيه إلى فضح قصتها مع الكاتب الفرنسي غابريال ماتزنيف. وتعود تفاصيل الجريمة، حسب الكتاب، إلى بداية الثمانينات، وكانت فانيسا سبرينغورا، التي تبلغ الرابعة عشرة من عمرها حينها، مهووسة بالقراءة لملء الفراغ الذي خلفه طلاق والديها، ليدخل على الخط غابريال ماتزنيف، البالغ حينها الخمسين من عمره، بعد عشاء عابر، مستثمرا صورته ككاتب يجر وراءه كثيرا من الأعمال والجوائز. وستتنبه فانيسا، مع توالي السنين، إلى حقيقة الرجل المرعبة والذي كان مهووسا بعلاقاته مع المراهقات وبإقباله الكبير على السياحة الجنسية، خلافا لصورته الفاضلة كرجل أدب. وخلال الثلاثين سنة السابقة، ظلت أحلام فانيسا سبرينغورا، كما تقر بذلك، مشحونة بوجوه الموتى وبالرغبة في الانتقام، لتقرر في نهاية المطاف قلب السحر على الساحر وخنقه داخل كتاب. وهو ما قد وُفقت فيه، بفضل جرأة ونجاح الكتاب على مستوى الانتشار. إذ أن الطبعة الأولى التي ناهز عدد نسخها العشرة آلاف نسخة قد نفدت في أقل من أسبوع، كما تصدَّر الكتاب قائمة مبيعات موقع أمازون. أما غابريال ماتزنيف، الذي ظل يعبث بسذاجة المراهقات طيلة عقود، فسيجد نفسه أمام القضاء، وأيضا ممنوعا من التداول. إذ سيقدم ناشره غاليمار على سحب “يومياته”. كما أوقفت مجلة لوبوان تعاونه معها. كما لم يتردد المركز الوطني للكتاب في سحب الدعم المالي المخصص له. وسيجد ماتزنيف نفسه، في نفس الإطار، محروما من وسام الفارس الذي كان قد حصل عليه، وهو الذي راكم كثيرا من الجوائز في غفلة عن طبيعة ما يكتبه وعن جرائمه. ولعل من أهمها جائزة الأكاديمية الفرنسية، الأرقى على مستوى أوروبا. أما الأمر المفارق فهو كون جرائم غابريال ماتزنيف لم تكن خفية. إذ سبق له أن أصدر، خلال منتصف سبعينات القرن الماضي، كتابه “الذين هم دون السادسة عشرة”، وهو العمل الذي “يُنَظر” فيه لجرائمه، مستعرضا فلسفته في عشقه للأطفال، بشكل مقزز، دون أن يتردد في ذكر أسماء بعض ضحاياه، مع الإشارة إلى أعمارهم. وسيكون الكتاب وصاحبه ضيفين على البرنامج التلفزيوني الشهير “أبوستروف” الذي كان يعده برنار بيفو. أما الغريب فهو أن يصدر نفس الكتاب في طبعة أخرى، بدعم من جهة رسمية فرنسية، وهو المركز الوطني للكتاب. وسيُصر ماتزنيف في مقدمة الطبعة الجديدة على عدم ندمه وعلى تشبثه بكل حرف كتبه، بل إنه يهنئ نفسه على نشره عمله خلال لحظة لم يكن “الصراصير يهيمنون على المشهد الأدبي الفرنسي”، في إحالة على بعض الأصوات المعدودة التي بدأت تعي بجرائمه. وبعد سنتين على صدور الكتاب، سيكون غابريال ماتزنيف وراء كتابة العريضة التي تندد باعتقال ثلاثة فرنسيين بتهمة الدخول في علاقات مع أطفال دون الرابعة عشرة، في إطار ما يعرف بقضية فرساي. أما الغريب فهو أن تضم اللائحة جون بول سارتر وسيمون ديبوفوار ورولان بارث وجاك دريدا وجاك لانغ، الذي سيصير في ما بعد وزيرا للثقافة ثم مديرا لمعهد العالم العربي بباريس. وبذلك، لا يجب النظر إلى ما قام به غابريال ماتزنيف، خلال عقود، باعتباره أمرا فرديا ومعزولا، بل إنه قد يشكل تعبيرا عن تمثل مجتمع بكامله، ابتداء من الضحايا الذين فضلوا الخلود إلى الصمت، إلى الناشر الذي يواظب على نشر أعمال تُشتم فيها رائحة البيدوفيليا، إلى مؤسسات الدعم الرسمية التي تختبئ وراء إشاعة اللغة الفرنسية، إلى القضاء الأصم، إلى قنوات الإعلام التي تفتح أبوابها أمام الرجل وأمثاله، إلى من يضع على كتفيه وساما بدرجة فارس، وأخيرا إلى القارئ الذي ظل مواظبا على التهام مثل هذه الأعمال دون كلل ولا ملل. ولم يكن غابريال ماتزنيف الأول ولا الأخير الذي يقترف هذا الذنب الذي لا يغتفر. فقد سبقه، وإن كان ذلك بشكل أقل احتشاما، الروائي هنري دي مونترلان، صاحب كتاب “الأطفال”، والكاتب أندري جيد، والروائي يان كيفليك، وكتابه “القاصر”. كما لا يجب أن ننسى أن فترة ما بعد ثورة 1968 التي شهدتها فرنسا قد اتسمت بإعادة النظر في كل القيم المرتبطة بنظام العائلة، عبر تحرير الطفل من “سجنه”، كما يقر بذلك عالم الاجتماع الفرنسي بيير فيردراغر في كتابه “الطفل الممنوع”. وسيتم الاستناد في ذلك، سواء إلى النظرية الماركسية أو إلى النظرية الفريودية، اللتين تجعلان من الطفل مساويا للراشد. ولم يكن هذا الأمر جديدا، إذ أن صورة الكاتب ظلت خلال قرون، حسب الباحثة لوسيل نيزارد، تتأسس على تمثله باعتباره منعزلا عن الجماعات. وهو الأمر الذي كان يمنحه هامشا أكبر لتجريب كل ما هو غرائبي وكل ما هو ممنوع. ويقتضي كل ذلك أن يذهب النقاش نحو محاكمة مرحلة بكاملها، بدل “إعدام” ماتزنيف أو اختزال القضية إلى حدث تنتعش به وسائل الإعلام التي كانت تفضل الصمت عن جرائم الرجل. ولعل من حسنات صدور كتاب “الموافقة” أنه فتح من جديد الجدل بخصوص الترابط بين الأدب والأخلاق، وأيضا بخصوص الحدود التي يمكن أن يقف عندها النص الأدبي ومعه كاتبه. يبقى أن السياق العربي لا يجب أن يبقى بعيدا عن هذا النقاش، ليس فقط بسبب انتشار البيودفيليا داخل المجتمع، ولكن أيضا بحكم حضورها بشكل كبير في تراثنا الشعري العربي، إلى درجة أننا قد نجد أنفسنا أمام جنس أدبي بكامله، وهو “شعر الغلمان”. والأكيد أن ذلك لا يقتضي حرق هذا التراث، بما قد يضمه من نصوص كتبها كبار الشعراء، ولكنه يستوجب على الأقل فهم دواعي استمرار الذهنية العربية في التماهي مع هذه النصوص.

مشاركة :