«تسبق فايت ندو الفجر كل يوم، ما جاء فجر عليها وهي نائمة قط. تتحرك في عتمة السحر، تجهز أدواتها، تبخّر أكوابها، تخلط القرنفل والحبهان والزنجبيل. تقلي البن، ثم تدقه في هون خشبي» (ح/ز) الرواية في مسيرتها الطويلة من الشفاهية إلى الكتابة وحتى الراهن، تتكون من حكايات وقصص واقعية يغلفها الخيال الكثيف الذي تتباين المقدرة عليه بين قاصٍ وآخر تبعاً لمواهبهم ومخزوناتهم المعرفية، وتفننهم في العرض الموصِّل للمتلقي، وباستمرار النتاجات المتوالية من الروايات، كان التلون التكنيكي الذي يميز بين الكاتبين/الكاتبات، وما يحدثه من تقبُّلٍ عند المتلقين الذين يشكلون للمعطي الحصيلة التي تبين مداه القبولي سعةً/انكماشاً، ليعرف مكانه المناسب، فيعمل على أن يحافظ عليه أو يطوره، أو أن يبارح هذا الميدان إن لم تكن له القدرة على المضي في ارتياده. وبالوقائع هناك من استمر مواصلاً العطاءات في مجال الكتابة الروائية، وحقق المكاسب والشهرة حتى رمقه الأخير، وهناك من يواصل صعوداً سلم الكسب المعنوي/المادي والشهرة، وهكذا باختلافات العطاءات الإنتاجية تستمر مسيرة الروائيات/الروائيين، والكل يبحث عن المربع الذي يتسع بتتابع النتاج المتغير أبداً، والمضيف لما يشدّ القارئين داعياً بقدرة على التواصل للمكاشفة التي تربط بين منتج ومستهلك. حمور زيادة الكاتب السوداني سلك في روايته (الغرق) طريقة ربط القصص بانتظام في خيط متماسك لكي تكون حكاية واحدة في صور عديدة يجمعها إطار واحد، وهذه الصور تضم مناظر جغرافية، اجتماعية، فنية، صحية، تعليمية، وكل قواعد وسقوف الحيوات، في سرد واضح وجلي، واضح في الوصف للزمان والمكان باللغة العربية الفصحى السليمة، وجلي في الحوار باللهجة المحلية السودانية للمدن/القرى كما في كل مكان في العالم، حيث تتباين اللهجات في المناطق وتكاد أن تذوب في العواصم التي تضم المختلف في تقارب ينتج من الاختلاط المكثف. عندما يشرع الكاتب للدخول في مروياته يستهل ممهداً بوصف المكان: «يجري النيل هارباً من أعالي الجنوب هابطاً إلى قاع الشمال، على جانبيه جاءت الخضرة ثم الصحراء وعلى مرور الزمن تغير السكان ولم يتغير النيل» و(حجر نارتي) هو اسم القرية التي يسكنها عبد الرزاق وهو أخو العمدة، امتد به العمر يتذكر ماضي القرية التي تنحدر من الصحراء القاحلة شرقاً ليحجزها النهر غرباً مانعاً أيها من الهرب، وقف عبد الرزاق «متمهلاً على قيفة - شاطئ - النيل لا هم له يترنم: (يا ناسينا ليه تنسانا/قلبي الشلتو عندك أمانة/ يا ناسينا ليه تنسانا..)، الأسمر عبد الرزاق هو في بلد كل أهلها سمر، فيه قصر مدكوك الجسم كأنه مصارع قديم «يلاحظ على سطح الماء بعض الدم الأحمر ويكتشف مع البعض أن ذلك بسبب غريق، وتكون الغريقة أنثى لا يعرفها الأهالي، فيندبون للقرى المجاورة المناديب مخبرين بالحادث إن كانت الغريقة منهم ليقوموا بما يتوجب عليهم، وهم في فورة البحث عن هوية الغريقة يصلهم الخبر من المدينة أن العسكر قد استولوا على السلطة، فتجري التحليلات عند جماعة القرية حسب قدراتهم وتخيلاتهم، وفي تجمعاتهم في شبه المقهى الذي تديره وتملكه فايت ندو يشربون ويهزجون ويحللون ويتكهنون، وتساعدها ابنتها عبير التي تقوم بتوزيع الطلبات على روّاد المكان الذين ينظر بعضهم إلى هذه الزهرة اليانعة بأنه قد حان قطافها وهي لم تكن في عيون الآخرين، وعندما يداهمهم الغجر بحضورهم» بلا موعد ككرة من قش تحملها الرياح ينتقلون من مكان إلى مكان، دخلوا القرية يأكلون ويشربون، فينهرهم أهل القرية قائلين: بدلاً من هذ أهلاّ عملتم؟ فيجيب الغجر: الله يسامح جدنا هو أوصانا ألا نعمل. ولا نسكن،.. يسرقون وليسوا لصوصاً لكنهم كالطير لا يؤمن بملكية المزارع للثمرة الناضجة، ما وجدوه أخذوه، وما تمنوه تسولوه، ثم يحملون حاجياتهم ويرحلون» وللغجر حكايات وقصص كثيرة تروى في التاريخ والأدب والبحوث الأنثروبيولوجية، والسير كما في سيرة حياة الدكتور حمزة المزيني التي صدرت مؤخراً بعنوان (واستقر بها النوى) «الخْلُوَة - يتنقلون ببيوتهم الشعر من مكان إلى مكان ويشتغلون بـ(ربْ) تبييض النحاس، ودلال القهوة، وصنع السكاكين، والمحاش، والمناجل». عبير على دقات الهون «تستيقظ كنهر خريفي عكر متغضنة الجبين متورمة عيناها محاطة بصديد لزج، تهرش شعرها.. وتناديها أمها: لا تتأخري بعدي لا أعرف أين تختفين كل يوم لكن المرة دي على الأقل لا تتركيني وحدي للعمل»، وكانت عبير محط أعين المتربصين كما هي سهلة التعامل في شبق غبي وجدت رغبتها في طبيب القرية وبعض الشباب، واشتعلت فاشتغلت لإشباع رغبتها وكبت ذلك الواضح أمام البعض، والطبيب - شقرب - كان العابث الأول الواله عشقاً لعبير يتغنى: (لو بهمسة قول أحبك/ لو بنظرة حتى عابرة/ قول أحبك/ كل كلمة من شفايفك أحلى غنوة/ كل نظرة من عيونك فيها سلوى)، ومع الطبيب ومن استهوته صارت تمرح دون تحسب للعواقب التي عجلت بنهايتها المؤلمة، حيث سرت الإشاعات عن حمل عبير بعد أن تضخم بطنها فتناقل أهل القرية الخبر، أخذوا يشكّون في فتيان القرية ومن يكون أب المولود المنتظر في بطن عبير؟ تناولوا أسماء من كانوا يشاهدونها معهم قرابة خمسة عشر فتى كانت ترى في العلن والخفاء معهم. والدتها فايت ندو تخاطبها متحسرة: «كنت مستعدة أن أموت لأجل أن تتعلمي وتصبحي طبيبة، كنت أنتظر أن ترفعي رأسي وتخرجي بي من هذه القرية.. ماذا فعلت بنفسك وبي يا بنت بطني؟!» وتلد عبير صبياً، وتأخذه سيدتها نور الشام بطريقة التهديد والوعيد وتسلمه لأحد الغجر الذي يستلم أجره منها مقدماً، ويفر بالوليد مع جماعته، وتهرب عبير من منزل أمها التي تتعب في البحث عنها مستعينة بالمعارف والقادرين، كان عبد الرزاق معها على شط النيل: «يضع كفيه على وسطه، لا حول ولا قوة إلا بالله، ويلتفت إلى متعقبيه، عيناه وعينا فايت ندو تتبع خطى عبير، فزع النخل لما دوت صرخة فايت ندو من جوف محترق عبير.. عبير.. عبير..!!» انتحرت عبير أغرقت نفسها، والطبيب الذي يرى أنه المتسبب لم يعد له أي أثر هرب.. ضاع في الخضم المتلاطم من البشر في المدينة.
مشاركة :