يتألّفُ الكتاب من مقدمة كبيرة نسبيًّا أشبه بتعليق على الترجمة، تحدثت فيها المترجمة مشاعل الهاجري عن علاقتها بالكتاب، ودوافع الترجمة ومنهجها في الترجمة، ثمّ تطرقت إلى الأطروحات الكبرى للكتاب والتي لخصتها في سبع أطروحات هي: اللُّعبة، وخطاب التفاهة، والأكاديميا والتجارة والاقتصاد والثقافة، وقد شملت الصحافة والكتب والتليفزيون والشبكات الاجتماعية والفن، وأخيرًا السياسة. وختمت تعليقها بالهدف النهائي، وقد تمثّل في إسباغ التفاهة على كل شيء، حيث البهرجة والابتذل، والمبالغة في التفاصيل. وهذه المقدمة على طولها أشبه بمدخلٍ مُهِمٌّ لقراءة أفكار الكتاب، وبوصلة تقود القارئ إلى مقولاته الأساسيّة. العالم لعبة يبدأ المؤلف كتابه بتحذير مهمّ أشبه بنصيحة مُستقاة من تفهّمه لسياق الواقع، فيقول لقارئه عليك أن تتخفّف أو تتخلَّص من الكُتب المُعقدة، ولا تُغالي في إظهار الفخر أو الارتياح لأن هذا قد يُظهرك بمظهر المغرور. بل عندما تتحدّث عن نفسك خَفِّف إحساسك بذاتيتك، ويجب أن تكون للمرء أفكار رخوة، فلقد تغيَّرَ الزمن وتبوّأ التافِهون موقِع السّلطة. ثم يأخذنا في تعريفه لهذا التافه، فالتفاهة بصفة عامة حسب المعاجم الفرنسية تعني ما هو متوسط تمامًا. أما جوهر كفاءة الشخص التافه فيتمثل في قدرته على التعرُّف على شخص تافه آخر، كما يَدْعُمُ التافهون بعضهم بعضًا. ويربط بين تقسيم العمل وتصنيعه، (أي يدوي وفكري) في ظهور السلطة التافهة. كما أن التافهين حسب رأيه، لا يجلسون خاملين؛ إنهم يؤمنون بأنهم يعرفون كيف يعملون بجهد. في مقدمته لا يتوقف المؤلف عند استعراض معنى التفاهة، أو دلالتها، أو سمات مَن يتِّسمُون بها، وإنما يتتبعُ حضور هذه المفردة في المدوّنة الأدبيّة، على نحو ما وجد عند جان دي لابرويير، وهو أديب وكاتب ساخر، وبالمثل عند الروائي جوستاف فلوبير، حيث كانت ظاهرة مستنكرة. بل هناك مَن لاحظ التطوّر التدريجي للتفاهة إلى أنْ أصبحت نظامًا متكاملاً كما هي عند لورانس ج. بيتر وريموند هال. وبالمثل هي حاضرة عند عالم المنطق أليكسندر زينوفييف الذي كان واعيًا سلفًا بقدرة العمل المبهرج على أن يكون ذا قوة نفسية ذات قدرة على تشكيل العقول. ومن التطورات التي لاحقت هذا المفهوم أن نظام التفاهة الآن فقد معناه الذي كان يُلصق به في الماضي، على اعتبار أنه يشير إلى قوة الطبقة المتوسطة، إذ صار الآن يعني سيطرة الأشخاص التافهين. وينتهي إلى القول بأن التفاهة تُشجِّعُنَا على الإغفاء بدلاً من التفكير. باختصار هي تحيلنا إلى أغبياء. كل نشاط في الفضاء العام سياسة كان أو إعلاما أو أكاديميًّا أو تجارة أو عملا نقابيا أو غير ذلك، صار أقرب لـ “لعبة” تلعبها الأطراف، ويعرفها الجميع رغم أن أحدًا لا يتكلم عنها. كما لا تحكمها قواعد مكتوبة لهذه اللعبة (فاللعب باتباع القواعد لا يكون إلا للضعفاء فقط) ولكنها تتمثّل أو ترِد أو تُستشعر في انتماء إلى كيان كبير ما، تُستَبعد فيه القيم من الاعتبار، فيُختزل النّشاط المُتعلِّق به إلى مجرد حسابات مصالح تتعلقُ بالربح والخسارة الماديين كالمال والثروة، أو المعنويين كالسُّمعة والشهرة والعلاقات الاجتماعية، وهو ما ينتهي بالجسد إلى الفساد بصورة بنيوية، وهو ما يترتب عنه فقدان الناس تدريجيًّا اهتمامهم بالشأن العام، وتنحصر اهتماماتهم على فرديادتهم الصَّغيرة. ويشمل لعب اللعبة المشاركة في بعض الطقوس الاحتفائية أو المجاملية. تسليع المعرفة في نظام التفاهة يُنَحَّى الأشخاص الطموحون ذوو المعايير العالية لحساب أشخاصٍ أقلّ منهم مرتبةً، يبحثون عن النجاح السهل، ومع الأسف عناصر الفئة الثانية هم مَن يديرون اللعبة، لأنّ أفرادها أقرب إلى ما تتطلّبه الطبيعة اليومية للحياة من التبسيط، ونبذ المجهود والقبول بكل ما هو كافٍ للحدود الدنيا. فعجز هؤلاء عن الارتفاع إلى المرتبة الأولى يجعلهم لا يَأْلُونَ جهدًا في أن ينحدر أصحاب الفئة الأولى إليهم، فكما يقول جمال الدين الأفغاني فـ”التسفّل أيسر من الترفّع”. وثمة سبب آخر لانخراط الناس في اللُّعبة، يكمُنُ في التبسيط، فالسّلوك السياسي مثلاً يسعى باستمرار إلى تبسيط الأوضاع الفرديّة المُعقدة إلى أقصى حدود التبسيط. يرى ألان دونو أن نظام الخبير (أو الخبراء) يُمثّل النموذج المركزي للتفاهة وقد سبق أن وصفهم إدوارد سعيد في كتابه “صور المثقف” بأنهم “السلطة في داخل المجتمع الجماهيري” وهم العلة التي يواجهها المثقف الحقيقي حسب تعريف سعيد. فوظيفة الخبير تكون بمثابة تحويل الاعتبارات الأيديولوجية والأفكار الصوفية إلى عناصر معرفية ذات مظهر نقي. ولهذا لا يمكننا أن نتوقع منه أن يُقدِّم لنا مقترحًا قويًّا أو أصيلاً. كما يشير المؤلف إلى التأثير السَّلْبي لهؤلاء الخبراء على الاقتصاد والأزمات الدورية، وقد وصفهم بأنهم أشخاص مُسرنَمون، وهو ما ينتج عنه وقوع انهيارات مفاجئة لأسواق المال. وهناك الخبراء المزيفون الذين يتقاضون رواتبهم مقابل ممارسة عاداتهم السيئة (الفساد والتدليس والتفاهة) من أجل إنقاذ الإوليغارشية (طبقة رجال المال التي تقوم بتسيير مقدرات الدولة من موارد). يعيب آلان دونو على النظام الجامعي، وما أحدثه من أزمات مجتمعيّة كثيرة، فالأكاديميون وفقًا للصحافي الأميركي كريس هيدجيز هم المسؤولون عن عِللنا الاجتماعية. حيث أنّهم متخصصون في مجالات معرفيّة فرعية متناهية الصغر، ومن ثمّ فهم فاقدون للقدرة على التفكير النقدي، بل ومهووسون بالتطوُّر الوظيفي، والحصول على درجات علميّة لأغراض الظهور الاجتماعي لا أكثر، كما أنّهم موالون إلى طبقات اجتماعيّة أقرب إلى القبائل. فمشكلة النظام الأكاديمي تتمثّل في الحرص على الترقيات الشخصيّة ونظم المعلومات، وبمعنى آخر فجامعات النُّخب كما يسميها هيدجيز قامت بنبذ كل نقد ذاتي، كما أن أساتذة الجامعات بسبب تدنِّي رواتبهم قاموا باستخدام طلبة الدراسات العليا كأدوات لخدمتهم. كما أن ثمّة إشكالية أخرى لهذا النِّظام الأكاديميّ، تتمثّل في تسليع المعرفة، فالجامعات صارت أحد مكونات جهاز اليومي الصّناعيّ المالي والأيديولوجيّ. حيث ثمّة نظام خضوع يربطُ الجامعة بعملائها الذين يشترون عقولها المنتِجة بشكل دوري، وهو الأمر الذي كان يرفضه من قبل ماكس فيبر، مع أن الجامعة كانت تُغرق نفسها من خلال تسليم نفسها لإغراء العلاقات التجارية ذات الطبيعة الاختراقية، الفارق أن طلاب اليوم لم يعودوا مُستهلكين كما كانوا، بل صاروا هم أنفسهم سِلعًا، فالجامعة تبيع ما تصنعه منهم إلى زبائنها الجدُّد، وتحديدًا إلى الشركات وغيرها من المؤسسات المموّلة لهذه الجامعة. ومن ثمّ تأتي أهمية تصريح رئيس جامعة مونتريال عام 2011، بمكان حيث قال إن “العقول ينبغي أن تفصّل وفق احتياجات سوق العمل”. وقد أتاح فرض منح من قبل هذه الشّركات للجامعات، أن تُمْلي من خلالها إرادتها على الجامعة، فالأساتذة والطلاب يعملون على المشروعات (أو الموضوعات) التي فرضتها هذه الشركات، ومن جانب آخر جعل الجامعة قابلة للتلاعب من قبل أي طرف على استعداد لتمويلها. وقد حذّر المفكّر الألماني جورج سميل بمصير الباحثين الذي يُوظَّفون لخدمة الاقتصاد. فكما يقول على الفكر أن ينتج المعرفة، بغض النظر عن التكلِّفَة وعن أثر هذه المعرفة في العالم. فالحقيقة أنّنا ابتعدنا عن عملية المعرفة، أي العملية التي نكتشف بمقتضاها وعينا وما هو قادر عليه. فلم تَعُد الجامعات تبيع نتائج أبحاثها، وإنما تبيع علاماتها التجارية تحديدًا. ومع الأسف الجامعات صارت شريكًا في عملية التلاعب بالزبائن، حيث أضحت أداة أساسية لشركات الضغط السياسي وهو ما ينتهي بهذه المؤسسات الأكاديمية إلى إنتاج الخبراء ذوي التخصص الضيق الذين يخدمون السوق، لا خلق العلماء ذوي الأفق الواسع القادر على مواجهة المشاكل الحياتية. فشعار المرحلة صار “الإنتاج من أجل الاستخدام”، ومن توابعها أن المواطنين والمفكرين والعلماء لم يروا في أنفسهم سوى تروس في آلةٍ كبرى. المآزق التي وقعت فيها الأكاديميات جعلت من البعض يوجه سهام النقد لها، على نحو ما فعل ألكسندر أفونسو، الذي لم يتردد في مقارنة الأنماط المؤسسية للجامعة بتلك الخاصة بالجريمة المنظمة، وهو ما حدا به لأن يعنون بحثه هكذا “كيف تشبه الأكاديميا عصابة المُخدرات” حيث يقارن بين الدخول المتفاوتة بشكل كبير في شبكات التهريب، ونظام التعويض المالي السّائد في الجامعة. يكتسبُ خطاب التفاهة لغة خاصّة به، خاصة أولئك الذين يجدون أنفسهم وسطًا في معركة إبداء الرأي، وهنا تصبح السّلبيّة قيمةً، ومع الأسف نظام التفاهة يحتاجُ إلى مناصرين له، ولهذا يحتاج إلى خطاب إغواء أو حشد، ولهذا الخطاب مواصفات معينة، كأنْ يعمد إلى القص أسلوبًا، إلى جانب العقلانية والعاطفة، وكنوع من الإغواء والحشد يلجأ رجال الدين إلى أسلوب القصّ. أما الأداة الثانية المعتمدة في خطاب التفاهة فهي اللغة الخشبية، وتتمثّل في النطق بتحصيل الحاصل الذي يقوم على الحشو أو مجرد التكرار بألفاظ مختلفة. الأداة الثالثة تتمثّل في التبسيط الخطر، ففي مقابل الكتابات الأكاديمية المتهمّة بالتعقيد هناك عروض قائمة على التسطيح وغياب أصالة الفكر. ومع الأسف خطرها كبير، فإن تجاوز التبسيط حَدّه أدّى إلى خفض درجة الجودة. وفي المجال العلمي تعتبر جريمة، حيث ينزل بالمعرفة إلى مستوى قدرات غير العارف. لذا يدعو إلى اختيار الكلمات ويفضّل أن تكون لغة علمية، وأيضًا تجنُّب الكلمات المشحونة بالعاطفة، وألا تستخدم لغة خشنة للسخرية من لاعبين سياسيين، وذلك لأن الإعلان العلني للرفض وفق تصور ماكس فيبر، يُضعِف من ادّعائك بالحياد الأخلاقي. ومن الموضوعات التي يناقشها المؤلف، تأثير الممارسات التجارية على أوجه الانحطاط المجتمعي والأخلاقي. فانتقال الحوكمة من النظام الاقتصادي على اعتبار أنها كانت تهتم بالإجراءات الخاصة بتنظيم أعمال الشركة وانتقالها إلى المجال السياسي، فرّغَت السياسة من الأفكار الكُبرى، كالحق والعمل والالتزام والقيمة والصالح العام، وبذلك شيئًا فشيئًا تحوّل الاهتمام بالصالح العام من شأن سياسي قيمي إلى مجرد إدارة عمليّة، فخلا العمل العام من منظومات الأخلاق والمفاهيم والمُثل العُليا والمواطنة والالتزام. وصار الهمُّ العام هو الخصخصة وتحويل المشروعات إلى القطاع العام بهاجس تحقيق الربح فقط، وبذلك تقلَّصَ مفهوم الدولة إلى مجرد “شركة تجارية”، وحلَّتْ مفاهيم جديدة تتوافق مع قواعد التجارة كالعميل كبديل عن مفاهيم مثل: المريض أو الطالب وغيرها. ويشير المؤلف إلى أن سوق الأوراق المالية صار منطقة حرب حقيقية. وهو ما يدفع بأن تنظم الدول برامج لتثقيف الناس حول الاقتصاد. لا شكَّ أنَّ التفاهةَ هي مرحلة من مراحل تطوُّر النظام الرأسماليّ الاحتكاري، إذْ تحولت فيه المهنة إلى وظيفة لتضمن لصاحبها البقاء فقط على وجه الأرض. فلا أدل على التفاهة من أن يعمل العامل عشر ساعات عمل في مصنع السيارات دون أن يستطيع إصلاح عُطل بسيط في سيارته، وينتج العامل الزراعي غداء لا يستطيع شراءه، وتبيع كتبًا ومجلاتٍ ولا تستطيع قراءة سطر واحد، إذ أصبح العمل تغريبيًّا وتشييئيًّا كما صورة الفكاهي الشهير شارلي شابلن في مجلة الأزمنة الحديثة. ويولي أدنو الثقافة أهمية كبرى، ويشير إلى أنها صارت أداة هامة في توطيد أركان نظام التفاهة. فأضحت الثقافة ثقافة شركات، فالأثرياء هدفهم استعراض القوة المالية، وبذلك تعكس حياة الترف التي يعيشون فيه الثقافة الصناعية الجمعية، فحسب قوله إنهم “لم ينتجوا ثقافة خاصة بهم منذ زمن طويل”. ويرى المؤلف أن ثمّة علاقة وطيدة بين المال والصّمت، فكثير من المهن التي يتطلب من أصحابها قدر من الصمت تدفع لهم مبالغ إضافية مقابل ذلك. فثمة قانون يُعلي من قيمة الكبْت مفاده: “اصمتْ، أنا أدفعُ لكَ” وإن كان تبدّل في ظلّ هيمنة الحقب الشمولية وسيادة ثقافة الشركات إلى “ابتسمْ: أنا أدفعُ لك….”، ويشدّد على أنَّ الصحافة بما تُمارسه من دورٍ تسطيحي خاصّة بانشغالها بالأمور الشخصيّة والفضائح، تتجه كما قال الشاعر الإسباني بيدرو ساليناس إلى إنتاج “الأميّون الجدد” وهؤلاء لا يقرأون الكتب، وإنما يحرثون المجلات لساعات. وعن هيمنة الفنون السَّاقِطة والرديئة يُرجعه إلى أننا أسقطنا معايير الجمال. وينتهي في النهاية إلى أن الهدف النهائي من كل ما يحدث هو إسباغ التفاهة على كل شيء. ويتساءل في النهاية: هل نقفُ مكتوفي الأيدي والعالم يُدار بلُعْبة؟ بمعنى آخر: ما الذي يجب أن نفعله؟ يقرُّ آلان دونو، كإجابة على سؤاله، بأن هذه الصيغة المختزلة لوضعنا، هي المُحصلة التي أوصلنا إليها هذا النظام. ومع هذا فيعتبره (أي السؤال) نقطة الصّفر التي ننطلقُ منها، وترفع من وعينا السياسي والاجتماعي. فالأجدر أوّلاً أن نقوم بقطيعة مع هذه الأشكال الرهيبة وتوليد أشكال جديدة أخرى. وثانيًا التوقُّفُ عن السُّخْط ثمّ العمل بلا هوادة. وأن نعيد التلازم بين أن نفكّر وأن نعمل. فلا فصل بينهما. فالأساس أن نقاومَ ونقاوم ما سعوا إلى تشييئه وتسليعه.
مشاركة :