نجحت الشقيقة تونس في تنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية قبل نهاية عام 2019, وحقق رئيس الدولة السيد قيس بن سعيد نجاحا كبيرا وفاز في الانتخابات الرئاسية بنسبة كبيرة تفوق 70% من عدد أصوات الناخبين, إلا أن الانتخابات البرلمانية التي شاركت فيها أحزاب كثيرة أسفرت عن نتائج لم تمكن أي حزب من الأحزاب العشرة الأولى من تشكيل حكومة, أي أن الأحزاب العشرة الأولى التي احتلت مقاعد البرلمان ليس لأحد فيها أي أغلبية تمكنها من تشكيل حكومة، ولذلك كان متوقعا منذ تكليف السيد الحبيب الجملي بتشكيل هذه الحكومة وهو اختيار وترشيح حزب النهضة أنه لن يتمكن من تمرير حكومته الجديدة المؤلفة من 42 وزيرا حيث لم يحصل سوى على أصوات حزب النهضة وحلفائها في حدود 74 صوتا من بين 219 صوتا إجمالي عدد المقاعد في البرلمان التونسي.وهذا الفشل في تشكيل الحكومة التونسية الجديدة بقيادة النهضة يعود في تقديرنا إلى ثلاثة أسباب:الأول: إن طبيعة النظام السياسي في تونس والذي تم اختياره في دستور عام 2011 هو نظام برلماني بالرغم من أن هنالك رئيسا للدولة منتخبا مباشرة من الشعب وبنسبة عالية كما أسلفنا والذي يشكل الحكومة هو الحزب الحاصل على المركز الأول في الانتخابات حتى وإن كان ليس حزبا أغلبيا مما يعني شبه استحالة أن يشكل أي حزب لوحده حكومة وهذا ما حصل بالفعل في انتخابات عام 2014 وعام 2019 أما الرئيس فدوره محدود جدا في النظام السياسي الجديد ويقتصر على حقه في اختيار وزير الدفاع ووزير الخارجية بالتشاور مع رئيس الوزراء بما يعني أنه لا دور له فعليا في السلطة التنفيذية حتى وإن كان عدد الأصوات التي حصل عليها في الانتخابات تفوق الأصوات التي حصل عليها الحزب الأول في الانتخابات وهو حزب النهضة.ثانيا: طبيعة النظام الانتخابي الجديد في تونس يعتمد على التمثيل الأغلب وهو النظام الذي تتنافس فيه على مقاعد البرلمان. ومع أن لكل انتخاب إيجابيات وسلبيات فإن النظام الذي تم اختياره في تونس يؤدي إلى تقاسم المقاعد البرلمانية بين الأحزاب الأكثر وزنا وهي تقريبا عشرة أحزاب سياسية بحيث تتشتت الأصوات والمقاعد مما يؤدي في نهاية المطاف الى تشكيل ائتلاف متجانس قابل للاستمرار لما بينها من تناقضات فهي من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ومن اليساري إلى الإسلامي والوسطي والدليل على ذلك أنه منذ عام 2011 وحتى الآن لم تنجح الحكومات المتتالية في تحقيق الاستقرار والتنمية في الشقيقة تونس بل الذي تحقق هو العكس تماما وذلك نتيجة اختلال التوازن بين الإسلاميين وما يسمى في تونس بالتيارات الوطنية الحداثية التي تتناقض مع مشروع حزب النهضة سواء فيما يتعلق بطبيعة المجتمع وهويته أو فيما يتعلق بالنظام الاجتماعي والاقتصادي, ولذلك شهدت التسع سنوات الماضية أكثر من خمس حكومات متعاقبة تعبيرا عن هذا الصراع وعدم الاستقرار.إن النتيجة الأساسية التي يستخلصها التونسيون اليوم من طبيعة النظام السياسي الذي اختاروه في الدستور الجديد وطبيعة النظام الانتخابي في القانون الانتخابي الجديد (نظام التمثيل النسبي” هو أن هذا الاختيار قد جاء رد فعل على النظام السياسي السابق كمحاولة للحد من سلطة الرئيس مثلما كان في النظام السابق ولكنهم وقعوا في المحظور وهو فشل النظام البرلماني بهذه الصورة في أن يحكم أي حزب من الأحزاب ويطبق برنامجه الانتخابي، ولذلك فإن هنالك دعوات عديدة خلال الانتخابات الماضية سواء من خلال حملة رئيس الجمهورية السيد قيس بن سعيد أو من خلال الخبراء الدستوريين والمفكرين ورجال السياسة المعروفين بالدعوة إلى إعادة النظر في طبيعة النظام السياسي وفي طبيعة النظام الانتخابي لتحقيق أمرين حكم الأغلبية البرلمانية من ناحية وعدم تغول هذه الأغلبية السياسية على حساب الأقليات السياسية الأخرى إضافة إلى وضع حد أدنى من نسبة الأصوات التي تمكن من الدخول في البرلمان للحد من تشتت الأصوات داخل المنظومة البرلمانية والتي تؤدي إلى ما أشرنا إليه من تشتت الأصوات دون جدوى.ثالثا: الحالة الصراعية المستمرة بين تيارين كبيرين على المستوى السياسي والاجتماعي:- التيار الأول هو مجموعة القوى الوطنية الديمقراطية الحداثية التي تجمع بين الليبراليين والدستوريين البورقبيين واليسار الديمقراطي والقوى القومية. - التيار الإسلامي المحافظ وحلفاؤه من ذوي مرجعية الإسلام السياسي.وهاتان القوتان بالرغم من كونهما تحالفتا أكثر من مرة في الفترة الماضية من 2011 إلى 2019 فإنهما لم ينجحا في وضع ركائز ثابتة للاتفاق على استراتيجيات مشتركة ومبادئ وقواعد مشتركة لبناء تونس في المرحلة الجديدة بعد رحيل نظام بن علي ولذلك تستمر هذه الحالة الصراعية ويستمر التجاذب بين القوى السياسية على حساب المصلحة العامة للبلاد وخاصة أن تونس تمر بوضع اقتصادي واجتماعي ومالي هش وربما خطير بسبب انخرام التوازن الاقتصادي والمالي وارتفاع نسبة المديونية والتضخم والبطالة ونسبة الفقر مقارنة بالعام 2011, جعل تونس تتأخر في المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية بعكس ما كان عليه الوضع حتى عام 2011 بما يقتضي وجود حكومات قوية ومستقرة وتمتلك القدرة على مواجهة كل هذه التحديات بشكل جدي في حين أن الواقع هو العكس تماما حيث يتم تضخيم الصراعات الحزبية على حساب المصلحة الوطنية مع الأسف الشديد.
مشاركة :