كاتب دافع عن الإنسان في مواجهة شرور العلم

  • 1/21/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

نعلم أن النمساوي ستيفان زفايغ (1881 - 1942) كان قصاصا وروائيا من النوع الرفيع. تشهد بذلك العديد من الأعمال التي ترجمت إلى جلّ لغات العالم، بما في ذلك اللغة العربية. ولا تزال هذه الأعمال تحظى بإقبال كبير من قبل القراء مثل “لاعب الشطرنج”، و“أربع وعشرون ساعة في حياة امرأة”، و“أموك”. وكتب زفايغ سير البعض من المشاهير في المجال السياسي، والأدبي، والفلسفي، وغيره مثل ماري أنطوانيت، ونيتشة، وماجلان، وتولستوي، ودستويفسكي، ومونتاني، وفرلين… وقبل انتحاره في البرازيل برفقة زوجته الشابة في الثاني والعشرين من شهر فبراير 1942، أصدر كتابه الأخير “عالم الأمس” الذي يرثي فيه موت الإمبراطورية النمساوية – المجرية، وانطفاء نجمة فيينا التي احتضنت مقاهيها ونواديها في العقود الأخيرة العديد من النوابغ في مجال الأدب، والفلسفة، والموسيقى وغير ذلك. مطلع العام الحالي، أصدرت دار “ألبان ميشال” الفرنسية مقالات مجهولة لستيفان زفايغ نتبيّنُ من خلالها مواقفه السياسية تجاه العديد من القضايا التي شهدها عصره الموسوم بالحروب، والنزاعات، والتقلبات الخطيرة. وقد حملت هذه المقالات التي تمتد من عام 1911 إلى عام 1942 عنوان “لا هزيمة للفكر الحر”. ومنذ أن كان في سن العشرين، نتبين أن ستيفان زفايغ الذي كان يتقن عدة لغات، والذي كان أيضا دائم التنقل والسفر، مدافعا شرسا عمّا كان يسميه بـ“الروح الأوروبية”. لذا طالب في العديد من مقالاته بأن يساهم المثقفون في توحيد أوروبا، وفي توفير “ديناميكية” لتحقيق هذا الحلم الذي ظل يراوده حتى في الأوقات العسيرة من تاريخ القارة العجوز. لذلك قاوم كل النزعات القومية والشوفينية التي كانت تبرز بين وقت وآخر لتؤجج الأحقاد والضغائن بين الشعوب الأوروبية. بل وكانت تشعل نار الحروب مثلما حدث خلال الحرب الكونية الأولى. مقالات مجهولة لستيفان زفايغ نتبيّنُ من خلالها مواقفه من القضايا التي شهدها عصره الموسوم بالحروب والتقلبات الخطيرة وفي إحدى مقالاته، كتب الروائي يقول “الفكرة الأوروبية ليست فكرة أولية مثل الفكرة الوطنية التي تعني الانتساب إلى شعب ما. وهي لا توجد في البداية انطلاقا من غريزة، بل هي تنطلق من وعي، وليس من حماس عفوي. وهي ثمرة تتوفر وتنضج ببطء انطلاقا من تفكير عميق”. وفي مقالته أيضا حذّر ستيفان من مخاطر النازية عند صعودها مطلع الثلاثينات من القرن الماضي. وفي ذلك كتب يقول “صوتي سوف يجهد نفسه لكي يكون صوت أربعين أو خمسين مليونا من الضحايا الذين خُنقت أصواتهم في أوروبا الوسطى. أنتم تعرفون جميعا كيف بدأت المأساة التي انبثقت من ألمانيا عندما هيمنت عليها القومية الاشتراكية التي كان شعارها الأول: الخنق”. كان زفايغ يبدي شكوكا تجاه التقدم العلمي والصناعي. بل إنه كان يرى أنه قد يفضي إلى المزيد من الحروب والنزاعات بين الأمم والشعوب. وهو يقول إنه كان يعتقد وهو في سن الطفولة والشباب أن ظواهر الحضارة الجديدة مثل الهاتف، والسيارة، والطائرة، وغير ذلك من الظواهر سوف تلغي الحدود بين البلدان الأوروبية، وسوف تساهم في توفير الأخوة والصداقة بين شعوبها، بل قد تساهم في جعل العالم أكثر سلاما وطمأنينة من ذي قبل. لكن شيئا فشيئا تبين له أن التقدم العلمي تحول إلى وسيلة للتخريب والتدمير. وهذا ما حدث خلال الحرب الكونية الأولى التي شعر عند نهايتها بفراغ رهيب أشعره بأنه يطل على هاوية المجهول المرعب. وعلى مدى أشهر طويلة ظل يعيش الأحداث كما لو أنها كوابيس بلا نهاية. وأخيرا اهتدى إلى أن العلاج الوحيد لتلك الحالة هو اللجوء إلى عالمه الداخلي. وفي ذلك كتب يقول “ما هو جوهري لدى كل إنسان هو أن يقوم في الأوقات غير متوقعة العواقب بحماية عالمه الداخلي، وجعله قادرا على مواجهة تبعات ومخاطر العالم الخارجي (…) وعلى كل واحد أن يسعى إلى أن يكون مستقلا حتى ولو أجبره ذلك على التخلي عن البعض من عاداته الخاصة”. وعندما وصل إلى البرازيل، فارّا من النازية، شعر بعقدة ذنب تجاه من ظلوا هناك في ألمانيا، وفي النمسا، يتعذبون يوميا بسبب ما يقوم به النازيون من أعمال ترهيب للأفراد والجماعات، ومن قمع رهيب للمثقفين والمفكرين الأحرار الذين رفضوا الانصياع لهم. وفي الرابع من شهر مايو، كتب يقول “أحيانا، أنسى. وها أنني جالس برفقة أصدقاء، أضحك وأمزح. لكن فجأة، وكما لو أنني أستيقظ مرتجفا على حين غفلة، أتحسّسُ خلف المناقشة الهادئة، الصوت المفزع للصمت فتتجمد الضحكة على شفتي”.ويتابع “عندئذ أتوقف عن الكلام. فالكلام بينما ملايين من تلك الكائنات تصرخ وتتعذب تحت السياط، لن يكون إلاّ بمثابة الخزي والعار (…) وها أنني أفكر في شاعر في فيينا أعلم الآن أنه في أحد معسكرات الاعتقال. وها أنني أجهد نفسي لكي أستحضر صور وجوه، وهيئات أصدقاء هم الآن محبوسون في سجن هائل الاتساع في ظل الهيمنة الألمانية لكنني أعلم جيدا أن ما أفعله هو مجرد وهم لأن الحقيقة أمرّ من كل هذا”.

مشاركة :