استضاف مقر المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، مساء أمس الثلاثاء، اللقاء الثالث من "ملتقى الإيسيسكو الثقافي"، الذي أطلقته الإدارة العامة للمنظمة، ويستضيف قادة الفكر من داخل العالم الإسلامي أو خارجه؛ لطرح أبرز القضايا الفكرية والثقافية. عُقد اللقاء تحت عنوان: "مستقبل الإعلام: من الصحافة الورقية إلى الصحافة الرقمية"، وتمحور حول البحث في صحة القول بنهاية الإعلام التقليدي، وما إذا كان يمكن للصحافة الورقية أن تعيش في العصر الرقمي. واستضاف الملتقى كلًّا من: رئيس تحرير جريدة الجزيرة السعودية رئيس مجلس إدارة هيئة الصحفيين السعوديين رئيس اتحاد الصحافة الخليجية خالد المالك؛ والكاتب والإعلامي المرموق من المغرب محمد الصديق معنينو، والذي تقلَّد عدة مناصب وكان مديرًا للتلفزة الوطنية وكاتبًا عامًّا لوزارة الاتصال سابقًا. أدار اللقاء المستشار الثقافي للمدير العام للإيسيسكو، الدكتور عبدالإله بنعرفة، وحضره المدير العام للمنظمة الدكتور سالم بن محمد المالك، وعدد من السفراء والدبلوماسيين والمسؤولين وكبار الصحفيين والإعلاميين بالمغرب، وجمع من المتخصصين والطلاب المهتمين بموضوع اللقاء. بدأ اللقاء بآيات من الذكر الحكيم، ثم ألقى المدير العام للإيسيسكو كلمة ترحيبية بالضيوف، نوه خلالها إلى أهمية موضوع اللقاء، وثمن حضور الضيفين، مؤكدًا أن الأزمة التي تمرّ بها مهنة الصحافة لا تقتصر على الجانب الأخلاقي والقضايا المجتمعية، ولكن التحولات التقنية الجديدة كشفت عن هشاشة مهنية أثرت سلبًا عليها، وهو ما أصبح يتحتم معه إعادة هيكلة نظم عملها. وأضاف المالك أن مجتمع المعرفة والاتصال شهد تحولات رقمية مذهلة، أضحت معها المعلومات في قلب جميع الاستراتيجيات، وتعرض الصحافيون والصحافة والجهات الممولة لها لانتقادات واسعة، وكثر الحديث عن مناورات بعض وسائل الإعلام وتلاعبها بالرأي العام؛ ما أثر على السلطة المعنوية التي كانت الصحافة تتمتع بها. واختتم كلمته بدعوة الحضور لالتماس الإجابة عن العديد من الأسئلة المصيرية التي باتت تواجه مهنة الصحافة في محاضرة ضيفي المتلقي. ثم ألقى خالد المالك محاضرته التي استهلها بالتأكيد على أن موضوع "المنافسة" بين الصحافة الورقية والصحافة الإلكترونية ما زال محل جدل ونقاش بين المهنيين والمتخصصين في جميع أنحاء العالم. وأشار المالك إلى أن تجربته في رئاسة تحرير صحيفة الجزيرة السعودية لنحو 40 عامًا، سبقتها سنوات من العمل الصحفي شهدت تطورات متسارعة خلال السنوات الأخيرة، ورغم الحرص على مواكبتها؛ إذ كانت الجزيرة أول صحيفة سعودية تتيح نسخة إلكترونية لمحتوى إصدارها الورقي اليومي في العام 1997م، إلا أن تسارع التطور التقني الهائل منذ ذلك الحين أسفر عن تسيد موقع التواصل الاجتماعي تويتر لساحة بث المحتوى الصحفي الفوري. وأضاف أنه مع ظهور التطبيقات الرقمية مثل تويتر لنشر المحتوى الصحفي، أصبح هذا التطبيق نقطة الجذب الأولى إعلاميًّا؛ حيث أصبحنا الآن أمام حالة متفردة من صناعة المحتوى المسموع والمشاهد؛ فالإعلام بات يتغير وفقًا لسلوك المصادر والمتلقين. وأكد رئيس تحرير صحيفة الجزيرة السعودية أن المعضلة الأكبر التي واجهت الصحافة الورقية تمثلت في اتجاه نحو 99% من المصادر لبث أخبارها فور حدوثها، أو حتى أثناء أو قبل حدوثها، على حساباتها الموثقة على موقع تويتر، وأصبحت سرعة نقل الخبر في متناول الأشخاص العاديين؛ ما جعلنا أمام صيغة جديدة للإعلام الذي أصبح يعمل عبر الشبكة العنكبوتية على مدار الساعة، وبرز مصطلح "صحافة المواطن" وأصبح للشخص العادي دور لا يمكن إغفاله في صناعة الإعلام الجديد، وبات بوسع أي شخص أن يصبح صحفيًّا أو حتى رئيس تحرير، وباتت التقنية هي التي تحدد المسار والطريق لإعلام الغد. واستطرد قائلًا: إننا الآن أمام مشهد إعلامي غير عادي؛ فالحكومات لن يكون بإمكانها التحكم بمفاصل الإعلام في المستقبل. ومع الإعلام الجديد أصبح للجميع إمكانية أن يصبحوا صحفيين وفنيين عن طريق الأجهزة الذكية، غير أن هذا النوع من الإعلام الجديد يعاني من عدة مشاكل؛ كركاكة الأسلوب، أو التعرض للمساءلة القانونية لما ينشره من محتوى يتجاوز القواعد المهنية والقانونية التي تحكم عمل الصحافة الورقية؛ فنحن أمام إعلام حر بامتياز، فشبكة الإنترنت متاحة للجميع للتعبير عن آرائهم، ولهم فرصة ليكونوا إعلاميين، لكن يجب على الصحف الإلكترونية أن تعتمد على مؤسسات لمراقبة المحتوى. وأشار إلى أن هناك من يرى أن الصحافة الإلكترونية هي البديل للصحافة الورقية؛ حيث إن هناك حاجة لتعليم الأساليب والصيغ التي تقدم من خلالها الأخبار للجمهور، وأكد أنه على الإعلام الجديد الاعتماد على مؤسسات صحفية متخصصة، وليس على هواة. وقال خالد المالك إن ما يثار عن مسألة "موت الصحافة الورقية" هو موت للأدوات وليس موتًا للمحتوى، مؤكدًا أن الصحافة المطبوعة سوف تستمر؛ ما يفتح الباب للإعلاميين لنشر محتوى يستجيب للقراء. وأكد أن الصحافة الرقمية ذاتها باتت تواجه تحديًا كبيرًا تمثل في انصراف القراء عنها نتيجة "طغيان مواقع التواصل الاجتماعي، وأن على كليات الإعلام القيام بـ"غربلة" مناهجها، بل وأساتذتها؛ لمواكبة التطور. واختتم محاضرته قائلًا: إن الصحافة الورقية قد تختفي، ولكن الصحافة المطبوعة لن تنقرض، وإنما ستتحول من الهيئة الورقية إلى هيئات إلكترونية أو تفاعلية، مؤكدًا أن الصحافة الرقمية لا زالت في طور التشكل، وأن إعادة النظر في محتوى الصحافة المطبوعة هو السبيل لبقائها، إلى جانب مواكبة التطور التقني، وأن حلّ المعضلة التي تواجه الصحافة المطبوعة -في وجهة نظره- يكمن في الوصول إلى صيغة للتكامل بين الإعلام المطبوع والإعلام الرقمي، وإعلام التواصل الاجتماعي. ثم تحدث محمد الصديق معنينو، والذي استهل محاضرته بتوجيه الشكر للإيسيسكو ومديرها العام على اختيار موضوع اللقاء الثالث لملتقى الإيسيسكو الثقافي، مشيدًا بمحاضرة خالد المالك، وبين معنينو أن محاضرته ستعتمد رصد التجربة المغربية مدخلًا للحديث عن الموضوع، ومن ثم شرع في استعراض تاريخ الصحافة المغربية، مشيرًا إلى أنها ظهرت للوجود في مدينة طنجة في الشمال المغربي، في مطلع القرن الماضي، مرورًا بظهور الصحف المغربية الأولى التي استمرت في عملها تحت الحماية الفرنسية، وتواصل وجود بعضها بعد استقلال المغرب. وأكد معنينو أن شراء الصحف اليومية المغربية تحت الحماية كان يُنظر إليه كعمل وطني، ودعم مباشر للحركة الوطنية، وهو ما ساهم كثيرًا في ارتفاع مبيعات الصحف خلال تلك الفترة، وصنع حيوية إعلامية. وقال معنينو إنه مع الوصول لفترة السبعينات أصبحت هناك 6 أو 7 صحف يومية فقط في المغرب، بعضها باللغة العربية، وبعضها باللغة الفرنسية، مشيرًا إلى أن جهود التعريب التي نادت بها الحركة الوطنية في المغرب عقب إعلان الاستقلال كانت تستهدف تعريب القضاء والتعليم والصحافة، وأنها نجحت في تعريب القضاء، فيما فشلت في تحقيق الشيء نفسه بالنسبة للتعليم والصحافة. وانتقل معنينو بعد ذلك إلى الحديث عن فترة الثمانينيات التي شهدت رواجًا كبيرًا في الصحافة المطبوعة، وصل معه عدد النسخ المباعة من الصحف اليومية نحو نصف مليون نسخة يوميًّا، وهو الرقم الأعلى في تاريخ الصحافة المطبوعة في المغرب، وأشار إلى أنه مع بداية التسعينيات بدأت أزمة عنيفة تضرب الصحافة المغربية مع ارتفاع كبير في تكاليف الورق والطباعة، تزامن مع عزوف من القراء، ساهم فيه بشكل كبير دخول أطباق الاستقبال الفضائية للمغرب، واهتمام المغاربة بمتابعة الوافد الجديد الذي مثل نمطًا إعلاميًّا جديدًا وغير تقليدي في حينه؛ ما دفع الملك الحسن الثاني -رحمه الله- لدعم الصحافة الحزبية والأحزاب نفسها، فانتعشت الصحافة المطبوعة، إلا أن الأعداد المباعة من نسخها لم تكد تصل لنصف ما كان يباع في حقبة الثمانينيات. وتساءل: كيف يمكن أن تعيش الجرائد المطبوعة اليوم في حين أن القارئ العربي بات يقرأ ما إجماليه ست دقائق سنويًّا وفق إحصاءات متداولة؟، مشيرًا إلى أن مشاكل الصحافة المطبوعة شهدت في أواخر تسعينيات القرن الماضي تفاقمًا، مع ظهور الهواتف المحمولة، لم يعد معها الدعم المادي كافيًا وحده لإنقاذها. وقال معنينو إن الهاتف المحمول فتح المجال أمام كل المواطنين ليعبروا عن آرائهم، لكن ظهرت له سلبيات تتعارض مع أخلاق المهنة. واختتم معنينو محاضرته قائلًا: إننا نعيش اليوم حربًا إعلامية مفتوحة وعنيفة؛ فالصحافة الورقية في حرب وجود لفرض ذاتها في ظل مبيعات هزيلة تكاد تصل لنحو 120 ألف نسخة صحفية مباعة يوميًّا في المغرب، التي بات عدد سكانها يتخطى 36 مليون مواطن، مؤكدًا أن الصحافة الورقية يجب أن تتغير وأن تواكب الانفتاح الرقمي. وعقب انتهاء محاضرة معنينو تم فتح باب النقاش حول موضوع اللقاء، وشهد النقاش مداخلات عدة من الحضور ما بين متخصصين وصحفيين ودبلوماسيين، رد عليها ضيفا الملتقى. بعد انتهاء مداخلات الحضور والرد عليها، كرّم الدكتور سالم المالك المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) ضيفَي اللقاء الثالث لملتقى الإيسيسكو الثقافي؛ حيث قام بتسليم درع المنظمة، وشهادة شكر وتقدير لكلٍّ من: الأستاذ خالد المالك، والأستاذ محمد الصديق معنينو، وسط إشادة من الحضور بالضيفين ومحتوى اللقاء. تجدر الإشارة أن اللقاءين الأول والثاني من ملتقى الإيسيسكو الثقافي حظيا بتغطية إعلامية كبيرة، دوليًّا وداخل دولة المقر، كما عرفا إقبالًا كبيراً وحضوراً وازناً ومتنوعاً من الشخصيات الفكرية والسياسية والوطنية وأسرة الإعلام وهيئات المجتمع المدني والأساتذة والباحثين والطلبة. وقد نشرت الإيسيسكو وقائع اللقاءين السابقين في سلسلة كتيبات خاصة بالملتقى.
مشاركة :