إطلالة ملونة للقمر في مهرجان الفنون الإسلامية

  • 1/23/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

الشارقة: محمدو لحبيب حينما ينهمر ضوء القمر من قلب السماء إلى سطح الأرض، وتفاصيل الوجود عليها في كل نقطة، وكل بقعة، لا يفعل ذلك من دون أن يسجل حضوره الممتد أبعد من مجرد الرؤية الجمالية له، إنه حين يلامس الأرض والموجودات عليها، يشكل تفصيلاً آخر، تحولاً آخر له هو نفسه، قبل أن يكون للأشياء التي يلامسها.هذه الفرضية التي تقوم على الشغف بمتابعة ارتسامات ضوء القمر على الأرض، وعلى الأشياء من حولنا، هي ما ولدتْ الشغف داخل عقل الفنانة الإندونيسية البريطانية سينتا تانترا، وجعلتها تغوص عميقاً خلف رحلة القمر تلك، مُحاوِلة استكشاف أفضل تعبير فني عنها، من خلال مشاركتها في «الفنون الإسلامية» في الشارقة في دورته الثانية والعشرين لهذا العام.استكشفت تانترا ما يتوارى خلف المدى المباشر لرؤية القمر، وضوئه، فانفتح أمامها الأفق الذي لا ينتهي إلا ليمتد أفق آخر، واستلهمت في هذا الإطار مقطعاً شعرياً لجلال الدين الرومي لتعنون من خلاله عملها باسم: «من أفق إلى أفق».الألوان العديدة المتداخلة في العمل التي تجعل العين تحتوي بسرعة كبيرة كل إمكانات ودرجات اللون دفعة واحدة، هي تعبير بصري ذكي من الفنانة عن روح المقطع الشعري الذي اقتبسته من الرومي، والذي يقول: «ضوء القمر يفيض عبر السماء من الأفق إلى الأفق، وكم سيدخل منه لينير عتم الغرفة يعتمد على نوافذها».النافذة، النور، الإبصار، هي مصطلحات كما هو معروف في ثقافتنا الإسلامية الصوفية، قد تكتسي أبعاداً شديدة العمق، ومعاني تتجاوز الظاهري على طريقة التجلي الصوفي لدى الرومي وغيره من الباحثين عن حقيقة المعرفة، وماهية النور الذي ينسكب في النفس من شرفة الروح، فينير لها الطريق نحو عوالم لا نهائية.أرادت تانترا أن تستكشف تلك العوالم من خلال تلويناتها الزاخرة بكل انعكاسات الضوء في عملها الموسوم بالعنوان الآنف الذكر، وهي بذلك تريد من المتلقي أن ينفتح على ما يمكن تسميته بعالمية اللون، أو بوحدته التي يخلقها بين البشر برغم اختلاف ثقافاتهم، وأعراقهم، وأديانهم وجهاتهم.إنه مدى فسيح ساعدتها فيه الأشكال الفنية التي تنتمي إلى فترة ما بعد الحداثة، وأبرزت من خلالها تقاليد وتراث بلدها إسلامي الثقافة، وهي تعبر عن ذلك التزاوج اللوني المشع بألوان الحياة والذي قدمته في عملها قائلة: «يسرني كثيراً أن أطور لوحة تكون ألوانها فريدة من نوعها، عن طريق استخدام طلاء ذهبي إسلامي تقليدي، يعكس عناصر هندسية معينة، تجعل العمل يتوهج بشكل خلاب خلال النهار، وخلال ضوء القمر في المساء».وتضيف تانترا مبرزة ماهية العلاقة الثقافية المنسجمة بيننا وبين الآخر والتي يكشفها العمل قائلة: «كما يوحي عنوان العمل (من أفق إلى أفق)، فهو يعبر عن الانسجام والتمازج بين الشرق والغرب، حيث أمزج كليهما في أسلوبي الفني الخاص، وبأنماط وألوان جديدة ومثيرة تحتفي بالحياة».تلك العلاقة المنسجمة بين الثقافات والتي يغزلها العمل الفني ويبرز تفاصيلها بجمالية مدهشة، هي الفكرة نفسها التي اشتغل عليها فنانان آخران من الشرق، ومن اليابان تحديداً، وهما «كاز شيران وكايتو ساكوما»، حيث اختارا أن ينحوا منحى آخر في إبراز عمق تلك العلاقة وترابطها بين البشر مختلفي الأديان.«تأمل/ لعب» هو عنوان العمل الذي اختاره (كاز وكايتو)، وهو يلفت الانتباه في أمور عدة، منها أولاً تلك الازدواجية الظاهرة فيه من خلال استخدام كلمتين تبدوان مختلفتين في المعنى الظاهري، ودمجهما في عنوان واحد لعمل واحد، إضافة إلى ذلك يوحي التقابل بين التأمل واللعب بإمكانية ربط علاقة منسجمة بينهما رغم أن كلاً منهما منفرداً قد يشير إلى نقيض الآخر.ومفهوم اللعب، كما يشير إليه الفنانان في عملهما، ليس هو ذلك الذي يغدو مجرد ترفيه ينتهي نهاية مسلية لحظية، تشبه المسح على الرأس بنعومة، بل على العكس من ذلك يكتسي اللعب بمعنى مختلف أقرب إلى الرصانة، أو إلى شحذ مدى الذهن لأقصى حد ممكن له، من خلال التأمل في الذات، وفي الآخر المختلف، والتركيز على نقاط التشابه والانسجام التي لا تبدو عادة ظاهرة للعيان لأول وهلة.«تأمل/ لعب» عمل تم تجهيزه فنياً باستلهام النمط الهندسي الإسلامي المصنوع من المرايا، بحيث تبدو الصورة المنعكسة على تلك المرايا متعددة الشكل، فهي تظهر كصورة مكتملة في جزء من المرايا، لكنها تظهر كتفاصيل مجتزأة في الوقت نفسه في بقية تشكيل المرايا المُكون للعمل، كأن الفنانين أرادا للمتلقي أن ينهض بأعباء تجميع صورته، كأنه في لعبة تأمل لإدراك كم أن صورته، وذاته، تحملان أجزاء متعددة، قد تتشكل في ذات أخرى، وصورة أخرى، مختلفة ومنسجمة معه رغم اختلافها الشكلي والظاهري.ولعل الميزة الكبرى للمهرجان هي أنه استطاع أن يرسخ من خلال الأعمال المعروضة في دورته الحالية قيمة أن نختلف نحن البشر، وعلاقة ذلك بالمدى المتسع الذي تمنحه الثقافة الإسلامية لتقدير ذلك الاختلاف واحترامه والتعامل معه بتسامح ورصانة وسلام.

مشاركة :