«حنين الماضي» لمهدي البناي... واقعية الأمس سريالية اليوم

  • 1/25/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

ماذا ترى في كومة طينٍ مهملةٍ؟ وأي معنىً تعنيه لك كتلة حجرٍ أو رخام؟ ماذا عن خامة البرونز؟ كل تلك الأشياء في نظر الفنان صيرورةٌ لشيءٍ ما، يمكنُ أن يُخلق من فوضويتها، وكأن الفنان أو النحات في هذه الحالة، عاكسُ لـ «إنتروبية» الأشياء، فبمقدار فوضوية تلك الخامات، يعيدُ الفنان عكس هذه «الإنتروبيا» محولاً إياها إلى نظام، يتجلى عنهُ شكلٌ ما، إنسانٌ أو كائنٌ حيواني، أو شكل يعكسُ الواقع، أو من شطحات الخيال.. كل ذلك الاشتغال نحو تحويل الصيرورة، ينتجُ عنهُ إبداعٌ يفيضُ بالمعنى، بيد أنهُ في الأصل خارجُ من اللاشيء إلى حالة الشيء المعجب به!تحويل صيرورة الأشياءتماماً هذا ما يبرعُ فيه الفنان البحريني مهدي البناي بإتقانٍ مبدع، فعبر معرضهِ الشخصي «حنين الماضي»، الذي افتتح مساء الاثنين (20 يناير)، في «جمعية البحرين للفنون التشكيلية»، يذهبُ البناي في اتجاهِ خامةٍ جديدة لم يألف العمل عليها كثيراً، بيد أنهُ قادر على أن يثبت جدارتهُ ببراعةٍ كبيرة، من خلال (28) عملاً برونزياً، استغرق إنجازها قرابة الستة شهور، متنقلاً فيها بين البحرين، ومصر، لإتمام تلك الأعمال التي ترتحلُ بالمتلقي في مختلف مفاصل الذاكرة، بكل محمولاتها من حرفٍ، وألعاب، وذكريات.البناي، وهو المختص في الخزفيات، بكالوروس من أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد (1986)، لم يتقيد يوماً بخامةٍ واحدة، فمن الطين إلى الحجر، ومن الحجر إلى الرخام، وها هو الآن يمارسُ اشتغالهُ في البرونز، لتكون هذه المادة الممتازة بصلابتها، وبصلاحيتها للعمل الفني، حاضنةً لتلك الذكريات التي تجلت فيها، بانتقالتها من ذاكرة البناي إلى خامة البرونز، يقول مهدي: «كنتُ أنوي عمل معرضٍ يتناولُ فكرة الحداثة في الفن، لكن ما إن بدأتُ في العمل، حتى وجدتُ نفسي تأخذني نحو الماضي الذي عشتُ تفاصيله، فتركتُ الفكرة الأولى، واتجهتُ لتجسيد التراث وما يتضمنهُ الماضي من تفاصيل جميلة، عبر استعادةٍ مشهديةٍ للحرف والألعاب الشعبية، وتلك الصور التي تجسدُ إنسان ذلك الزمن، وهي صورٌ لازمت التراث البحريني، إلى جانب ملازمتها لطفولتنا، وصبانا». رواية الشكل... حكاية المعنىبين يديه، تتحولُ تلك الخاماتُ إلى أشياء تكادُ تتخذُ مساراً حياتياً كأنها أحياء، هي تبقى على ما هي عليه؛ جماداً، لكنها تستنطقُ تفاصيل الحياة، لنشهد مشهديةً متخيلةً، ففي هذا المعرض، يعودُ البناي إلى ذاكرته، ليجسد أبرز مشاهدها، بكل ما تشتملهُ؛ مصوراً مشهداً متكاملاً لطبيعة الزمن الذي تخلقت فيه تلك الذكريات، ومستعيداً طبيعة الحياة في الأحياء، والقرى، والحواري، والـ (فرجان)، ابتداءً بـ «الحمَّار»، الذي إن تصورناهُ يجوبُ فضاءات القرى والمناطق، سنتخيلهُ يمرُ في طريقهِ بالأطفال وهم يلعبون «السكينة»، و«الساحرة»، و«الدوامة»، و«الطوق»، و«الدحروجة»، و«لعبة البرميل»، ويصطادون بـ «الفلاتية»، ويمتطون «حصان السعف»، حيثُ يثيرون وراءهم الأغبرة. وفي هذا المكان اللامتناهي للذاكرة، يمرُ «البياع» ببيوت القرية، مستثيراً شهية الشراء لدى المبتاعين، خاصة من النساء إذ كانت حيواتهم تقتصرُ على محيط قراهم، وقلما بلغوا السوق، فيكون بمثابة السوق المنتقل إليهم، وبالعودة لـ «الحمَّار» الذي يكملُ طريقهُ عابراً القرى والمناطق، يمرُ في طريقهِ البحري على «الحداق»، وهو يصطاد، و«الجزاف» وقد ابتاع من الصياد صيده، ليعاود بيعهُ على أهل القرى والمناطق التي يجوبها، وفي تعمق «الحمَّار»، يمرُ على «الراعية» تلك التي تقودُ قطيع خرافها حيثُ الكلأ، و«مربية البط»، و«الراعي» الذي يرعى غنمهُ بما تجودُ به الأرض، كما يقفُ هنيهةٌ عند «الصقار»، وقد يمرُ بطريقهِ كذلك على مجموعة من الرجال الذين يجلسون في «القهوة»، ويكرمهُ «المقهوي» بفنجان قهوة. وبعد انتهاء مهمتهُ اليومية، ينصرفُ «الحمَّار» إلى منزلهِ، حيثُ طفلهُ يشرعُ في «حلمِ» يتجسدُ في الطيران يوماً، أما طفلهُ الآخر، فيمارسُ هوايتهُ التي يطلقُ عليها «مطير الحمام». ولا تخلو تلك القرى والمناطق التي مر بها «الحمَّار» خلال يومه، من «الهجانة»، وهم العسكرُ الذين يمتطون الجمال، كما لا تخلو بعض المناطق، التي تقدم بها الزمن قبل غيرها، من «رجل المرور».سريالية الواقعإن كل ما جاء بين ظفرين («...») أعلاه، عناوينُ لمنحوتاتِ شملها معرضُ الفنان الفناي، وهي عناوين، كما نرى، مباشرةً، تعني ذاتها، دون مواربة أو غموض، كأن البناي في هذه الأعمال يشير إلى أن واقعيةً هذه المنحوتات، ضربٌ من السريالية بمقاييس الحاضر؛ أي أن غياب هذه الحرف والألعاب، واختفاءُ ملامحها، إلا ما ندر، يشكل من واقعيتها ضرباً من التجريد المفرط، والواقعية الماضوية التي لا يمكن عودتها، تجسدُ مدى سريالية هذه المشهدية في حاضرنا. لنتخيل مدى سريالية مشهد «الحمَّار»، وقد امتطاهُ مهندمٌ بربطة عنقه، قاصداً عمله الذي يقعُ في الطابق العشرين من برجٍ شاهق. أو لنتخيل ذلك أطفال الزمن الحاضر، الذين اعتادوا ارتداء نظارات الواقع الافتراضي، والانغماس في ركوب سيارات السباق السريعة في ذلك الواقع، وهم ينظرون لأطفال الزمن الماضي وقد امتطوا «حصان السعف»، صاهلين بدلاً عنهُ، ومسرعين بركضاتهم، وهم يضربون بعصاةٍ على السعف بقصد تسريع جريانها المتخيل، أليست تلك المشهدية مشهديةً سريالية؟ إنها ذاتها المشهدية التي يستعيدها البناي في معرضه.لقد أفرط البناي في معرضه في واقعية المنحوتات، وكأنهُ يقول «رغم ذلك الإفراط في الواقعي، إلا أنهُ ليس كذلك البتة، أنهُ إفراطُ في واقعٍ مجردٍ من كل هذا الواقع الآن». هو إذاً تعريجُ على واقعٍ كان كذلك، لكنهُ بمقاييس اليوم، واقعُ ماضيٍ ليس إلا، فأمام الواقع الآن، سرياليٌ بحت!

مشاركة :