يدرك تنظيما القاعدة وداعش، أن النجاح في حسم السيطرة على الفضاء الجهادي في أفريقيا يعزز فرص أحدهما في احتواء اضطرابه الناجم عن الهزائم العسكرية وغياب القيادة، ومن أجل هذا يسعى كلا التنظيمين للتمدد والبقاء في القارة السمراء على حساب الآخر. يركز التنظيمان على إثبات نفسيهما ميدانيًا، ويحاول كل طرف منهما التأكيد على أنه الأجدر بالاستحواذ على الفضاء الأفريقي الجاذب لاستيعاب القوى البشرية النازحة من سوريا والعراق، عبر ادعاء التماسك والفاعلية وإثبات العكس لدى غريمه، لإضفاء الشكوك إزاء قدرة الآخر على بناء “خلافة” أفريقية بديلة عن نموذجي خلافتهما المنهارة عربيا. لم يعد التنافس بين الجانبين موضع شك في أفريقيا لدى المتابعين للتطورات الأخيرة. وتدور تساؤلات حول من باستطاعته تقليص القدرات العسكرية والبشرية للآخر، مع حرص تنظيم القاعدة على انتهاز الفرصة لاستعادة أفرعه التي انشقت عنه وأعلنت الولاء لداعش، مقابل استماتة الأخير بعدم التفريط في ما حققه من تمدد يراه لازمًا لإثبات وجوده. يستغل تنظيم القاعدة حالة الارتباك التي أصابت داعش عقب مقتل زعيمه أبوبكر البغدادي بغرض اختراق التنظيم الذي تمدد في أفريقيا قاضمًا من جسد القاعدة على وقع صعوده السريع بعد إعلان خلافته من العراق. أعلن تنظيم أنصار المسلمين في بلاد السودان والمعروف أيضًا باسم (أنصارو) الذي كان قد انشق عن بوكو حرام في يناير 2012 مواصلة نشاطه العسكري من أرضية الولاء للقاعدة بعملية رمزية نفذها مؤخرًا ضد دورية للجيش النيجيري. وتنطوي معاودة هذا التنظيم الموالي للقاعدة لنشاطه في نيجيريا على معاني ورسائل كثيرة، ويؤكد أن انشقاقه المعلن عن تنظيم بوكو حرام كان غرضه الإيحاء بأن أفرع داعش في أفريقيا تأثرت بهزائم التنظيم بمعاقله الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط، وأن مصيرها سيكون العودة إلى حضن القاعدة من جديد. اختراقات ممنهجة يشير الإعلان إلى بدء مرحلة جديدة لا تقتصر الانشقاقات فيها على تغيير القيادة أو الاستقلال بجبهة كما كان يجري داخل بوكو حرام تحت عنوان داعش على مدار سنوات، ويدشن لاختراقات منهجية طارحة بدائل تنظيمية وفكرية منافسة تحظى بحواضن وقبول محلي مقارنة بمنهجية وأساليب داعش. بعد تجارب سيطرت عليها الاختراقات المتبادلة والانشقاقات والصراع الداخلي المسلح نتيجة الخلط بين منهجية داعش والقاعدة داخل بوكو حرام التي انقسمت فعليًا إلى ثلاث جبهات، أو حركة الشباب الصومالية أو جماعة نصرة الإسلام والمسلمين في منطقة الساحل الأفريقي، يسعى تنظيم القاعدة لفرض رؤيته وتعميم منهجيته كسبيل لتحقيق الاستقرار التنظيمي بمراكزه في أفريقيا. وتروّج القاعدة للدخول في تحالفات مع المسلمين المحليين، وتحث القبائل والمكونات الشعبية للقتال وتشجعها على “ثورة إسلامية” بما يعزز من ترابطها مع العامة وتغلغلها داخل المجتمعات المحلية لتقوية صفوفها في مواجهة القوات الأمنية المحلية المدعومة إقليميًا ودوليًا، وترى أن هجماتها ينبغي أن تستهدف فقط رموز الدول والقوى الأجنبية وليس المدنيين. التنظيمان يركزان على إثبات نفسيهما ميدانيًا، ويحاول كل طرف منهما تأكيد أنه الأجدر بالاستحواذ على الفضاء الأفريقي الجاذب للجهاديين الفارين من سوريا والعراق لا يعد إعلان دولة الخلافة العالمية الهدف الأول للقاعدة، بل تسعى على عكس داعش للتخفيف من وطأة التكفير والقتل العشوائي للمدنيين التي طبعت النشاط الجهادي طوال السنوات الماضية في أفريقيا نتيجة الاختلاط بالعناصر الجهادية الشرق أوسطية. ويدعو تنظيم القاعدة للتحرك في نطاق محلي وطني والتمسك بهوية إقليمية، فشكل “الخلافة” التي يطرحها محكوم بمقتضيات البيئة المحلية ومحدود بمدى امتداد نفوذ العشائر والقبائل بما يتوافق مع الواقع الأفريقي، وصراعه فقط ضد القوى الغربية المنخرطة في المواجهة بجانب الدولة وليس ضد عموم القوى الغربية على غرار داعش. في المقابل، اعتمد تنظيم داعش في أفريقيا مؤخرًا على إثبات قدرته على شن أكبر عدد من الهجمات التي لا تفرق بين مدنيين وعسكريين، باعتبارها الطريقة الناجعة لنشر أفكاره على نطاق واسع وخلق حالة من التماسك التنظيمي وللحفاظ على ولاء عناصره للقيادة الجديدة والحيلولة دون حدوث انشقاقات. ويواصل التنظيم المنهك الترويج لسرديته التقليدية بشأن الخلافة العالمية العابرة للحدود والقارات عبر دعايته الإعلامية ودوره في إسقاط أعداد كبيرة من القتلى في ولاية غرب أفريقيا ومواصلة غزوة الثأر لمقتل البغدادي داخل نطاق ساحات نشاطه الأفريقية. ويحرص داعش على إظهار وحدة خلافته بين سوريا والعراق وأفريقيا وآسيا وأوروبا، كما يحرص عبر منابره الإعلامية على أن يكون الرد على هزائمه تحت عنوان غزوة الثأر لمقتل زعيمه السابق البغدادي وهو ما ترجم على أرض الواقع بعمليات إرهابية تؤكد رغبته في تكريس منهجيته بشأن الخلافة العالمية وإظهار وحدة جنود الخلافة مهما باعدت المسافات بين ولاياتهم وانتشرت الحدود والحواجز بين ساحات جهادهم. صبغة محلية إثر إطلاق داعش ما أسماه “غزوة الثأر لأبي بكر البغدادي وأبي الحسن المهاجر”، شن مقاتلو التنظيم سلسة من الهجمات شملت أهدافًا عسكرية ومدنية في النيجر ونيجيريا وبوركينا فاسو ومالي، بجانب عمليات بمناطق متفرقة من العالم. على الطرف المقابل، يصبغ الخطاب الإعلامي للقاعدة في أفريقيا نشاطاتها وأهداف عملياتها وتحركاتها بالطابع المحلي، وذلك لتأكيد جوهر الأهداف التي تحملها رسائله، والجهات المطلوب تكثيف الأضواء عليها خلال المرحلة المقبلة. وفي إصدار صوتي لمؤسسة الزلاقة الجناح الإعلامي لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين مؤخرًا تحت عنوان “وإن غدًا لناظره قريب” بمناسبة مرور سبعة أعوام على مرور ما وصف بالاحتلال الفرنسي لمالي، دعا أحد قيادات التنظيم للانضمام للقاعدة عارضًا صورا من مظاهرات نظمها ماليون ضد الوجود الفرنسي، ومقاطع من كلمات لأسامة بن لادن وأبويحيى الليبي تندد بالاحتلال الفرنسي لمالي، للإيحاء بتطابق التوجهات والأهداف بين عامة الشعب وقادة التنظيم. عكس بيان لجماعة “أنصارو” التي تسيطر على مساحات شاسعة شمال نيجيريا والتي عاودت نشاطها تحت راية القاعدة مكرسة انشقاقها عن بوكو حرام، حرصها على إظهار تمايزها عن خلافة داعش عبر طرح تصور خلافة محلية تساير تطلعات المجتمعات المحلية في سياق السعي لما أسمته الخلافة الفولانية المسلمة التي كانت قائمة حتى عام 1804 وتزعمها الداعية عثمان بن فودي الفولاني وضمت شمال الكاميرون وشمال نيجيريا وجنوب النيجر واستمرت حتى الاستعمار البريطاني والفرنسي للقارة الأفريقية. ويضاعف إعلان تنظيم “أنصارو” تبعيته للقاعدة ومواصلة نشاطه الذي توقف منذ حوالي سبعة أعوام، الانقسامات داخل بوكو حرام ويمهد لتشجيع أجنحة أخرى داخل التنظيم، مثل ولاية غرب أفريقيا بالانضمام لهذا التنظيم في شمالي غرب نيجيريا وانتهاج الخط القاعدي. وجاء انفصال ولاية غرب أفريقيا سابقًا عن بوكو حرام، على خلفية رفض التوسع في تكفير وقتل المدنيين والنساء والأطفال، علاوة على الفساد الإداري والمالي وسوء معاملة قائده أبوبكر شيكاو لباقي القادة واستهداف بعضهم بالقتل. وتأتي الخطوة الجديدة في سياق الجهود التي تبذلها الفصائل الموالية لتنظيم القاعدة في أفريقيا لاستعادة الأفرع التي سبق وأعلنت مبايعتها لداعش، عبر تفعيل نشاطها، وانطلاقًا من منهجية وأفكار القاعدة التي تراها الأقرب ملاءمة لأهداف واحتياجات السكان المحليين المتعلقة بالطابع المحلي لمشروع خلافته، وتقديم نفسه كشريك في النضال ضد المحتلين والغزاة الأجانب وتمكين أصحاب البلاد من الانتفاع بثرواتها. ويحرص تنظيم القاعدة بالتوازي على تأكيد تراجع دور ونفوذ تنظيم داعش في أفريقيا عبر الترويج لفكره الذي يحصر التكفير والمواجهات المسلحة ضد مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية، مقابل إبراز اعتماد داعش على المقاتلين الأجانب وعلى النازحين من بؤر الصراع بالمنطقة العربية وليس على أبناء البلاد من معتنقي الأفكار السلفية، فضلًا عن استهداف داعش للمدنيين. وتمهد هذه المستجدات لتغييرات في خارطة التنظيمات الإرهابية في أفريقيا ورفع كل من القاعدة وداعش من منسوب عملياتهما خاصة التي تستهدف القوات المحلية أو الأجنبية لدعم محاولات تنظيم القاعدة تكريس نفوذه خاصة في إقليمي الساحل والصحراء وغرب أفريقيا والقرن الأفريقي، مقابل محاولات داعش لإثبات حضوره كمنافس قوي للقاعدة في تلك الساحات الإستراتيجية والحيوية الهامة. ويرجح أن تتوسع مساحات الصراع بين التنظيمين، لأن القاعدة التي تستفيد من التجذر والتمدد في المجتمعات المحلية تنظر إلى داعش كخصم سرق تضحياتها وجهودها طيلة الفترة الماضية، في مواجهة سعي داعش لبناء قدراته العسكرية والتنظيمية والمالية في تلك الساحة الشاسعة الخصبة، واضعًا نظره على ما يسيطر عليه تنظيم القاعدة من ممرات ومعابر للتهريب بالمنطقة الممتدة من السنغال وغينيا على ساحل الأطلسي، إلى القرن الأفريقي على سواحل المحيط الهندي.
مشاركة :