قال العراق كلمتَه... قدّر اللواء جعفر البطاطا قائد عمليات بغداد في الجيش، أن أكثر من مليون شخص تَظاهَروا سلمياً وملأوا الكرادة والجادرية في العاصمة العراقية، داعين إلى الانسحاب الفوري للقوات الأجنبية وعلى رأسها الأميركية. واستجاب هؤلاء لدعوة السيد مقتدى الصدر الذي اصطفت خلفه جميع التنظيمات الشيعية والأقليات التي ترغب بوضْع حد للهيمنة الأميركية على العراق.وقد أظهرتْ التطوراتُ أن الضغطَ على زرّ تنفيذِ عملية اغتيال اللواء قاسم سليماني وابو مهدي المهندس ورفاقهما بصواريخ فتاكة من طائرة أميركية من دون طيار، سيرتّب تكلفةً باهظةَ على واشنطن، هي وجودها العسكري في العراق. ومما لا شك فيه أن الرئيس دونالد ترامب سيعاني من هذه التبعات في حملته الانتخابية المقبلة.ولكن القصة لا تنتهي عند هذا الحد. فلن يَسمح حلفاء إيران بوجود هادئ للقوات الأميركية قبل جدْولة انسحابها النهائي. ورغم أن الوجود الأميركي بعيدا عن المناطق السكنية، إلا أن كل جندي أصبح هدفاً.وتعزو الإدارة الأميركية ووسائل الإعلام الرئيسية، عدم الاستقرار في العراق إلى السيطرة الإيرانية. إلا أن هذا المنطق لا يحاكي الواقع، إذ ان تعيين غالبية رؤساء الوزراء تم بموافقة من الإدارة الأميركية.ولم تنجح أميركا بتحقيق الاستقرار في العراق منذ أن احتلته العام 2003. إذ تعرّضت قواتها للهجوم بعد العام الأول من وجودها. وفشلتْ في بناء بنية تحتية قوية وكذلك فشلت بكسب قلوب وعقول السكان رغم أنها كانت تملك اليد العليا في اختيار القادة.واستفادت الشركات الأميركية من الثروات العراقية وبرامج التدريب والتسليح التي أثبتت فشلها عند أول تصادم مع «داعش» والتنظيمات الأخرى التي احتلت الموصل العام 2014 وبعدها ثلث العراق.وقد عيّنت أميركا أول رئيس وزراء، إياد علاوي العام 2004. وتم إانتخاب إبراهيم الجعفري في 2005 بعد اقتراح بول بريمر حاكم العراق. إلا أنه سرعان ما رفضه الرئيس جورج بوش الذي نقل عنه السفير زلماي خليل زاده، أن الرئيس الأميركي «لا يريد، لا يدعم ولا يقبل بالجعفري».وفي 2006 اختار التحالف العراقي الموحّد، نوري المالكي الذي قال عنه خليل زاده «إن سمعة المالكي كشخص مستقلّ عن إيران جيدة. لقد ضغطت طهران وفشلت بإبقاء إبراهيم الجعفري».وفي أوائل 2008 أصبح المالكي أكثر العراقيين كرهاً لإيران بعدما هاجَم «جيش المهدي» الذي كان يقوده السيد الصدر مدعوماً من إيران، القوات الأميركية في أنحاء العراق تحت مسمى «عصائب أهل الحق».ولكن، بعد أشهر عدة، طلب المالكي من القوات الأميركية المغادرة وفق جدول زمني لا يتعدى 16 شهراً. وهذا ما دَفَعَ إيران إلى التقرب من المالكي ودعْمه في الانتخابات اللاحقة لدورة ثانية. وكانت هذه المرة الأولى تنجح طهران بتمرير شخصية تريدها لبرنامجها ضدّ أميركا. إلا أن المالكي أثبت عن عناده واستئثاره بالسلطة وعزْله للأحزاب الشيعية والسنية والكردية. لكنه حقق الانسحاب الأميركي في أواخر 2011.وفي 2014 تدخلت «المرجعية» لمنْع إعادة انتخاب المالكي لدورة ثالثة رغم فوزه بالانتخابات. وتولّى رئاسة الحكومة حيدر العبادي الموالي لأميركا والمعادي للواء سليماني.فقد انتقد العبادي علانية سليماني، خصوصاً عندما استعادت القوات العراقية مدينة كركوك الغنية بالنفط. وأدار العبادي عزْل أبو مهدي المهندس أكثر من 4 مرات وهاجَمَه بقسوة لتعليقه صور «قادة شهداء» على حائط مركز «الحشد الشعبي» وطالَب بإزالتها. وكذلك أوقف العبادي، سليماني مرّاتٍ عدة في مطار بغداد فارضاً شروط الدخول كما تركه خارج مكتبه لساعات طويلة قبل استقباله لعدم رغبته برؤيته.وسَقَطَ العبادي في الانتخابات اللاحقة ووصل عادل عبدالمهدي إلى رئاسة الحكومة. وكان اختيار الأخير مُناسِباً للموفد الأميركي بريت ماكجورك ولسليماني وللشيعة والسنّة وخصوصاً الأكراد.وكان مهماً لإيران ألا تستفزّ أميركا في العراق لأن استقرارَه وعدم العمل ضد أميركا علناً كان من أهداف سليماني. وقد وافق عبدالمهدي على تحييد العراق وعدم جعْله ساحة معركة وتجاذباً بين أميركا وإيران.إلا أن ترامب خرق الاتفاق غير المعلن وشنّ حرباً على إيران بقتل سليماني. ورداً على ذلك خلعت إيران القفازات: ستكون سياسة طهران أكثر عدوانية تجاه أميركا في العراق.لقد اغتالت أميركا، سليماني في العراق انطلاقاً من القواعد التي تستخدمها على أراضيه. وردّت طهران عليها وعلى القاعدة نفسها لتعترف أميركا بوقوع 34 جريحاً لغاية اليوم.لن يتاح بسهولة العثور على أهداف أميركية سهلة، لأن واشنطن أوقفتْ برامج التدريب والدوريات المشتركة. وتالياً فإن إجبار القوات الأميركية على الانتقال عن طريق الجو فقط هو في ذاته ضربة لها ولأمنها في العراق.ووجدت إيران بالسيد الصدر زعيماً عراقياً مثيراً للجدل ولكن تأثيره قوي على الشارع. وقد أراد هو تولي قيادة الحملة لإخراج أميركا من العراق.من الواضح أن أميركا لا تستطيع المغادرة بسرعة. ولكن إيران عدو منضبط وليست عدواً متهوراً بل يملك الكثير من الصبر ليصل إلى هدفه. وتدرك طهران أن العراق لن يستطيع المحافظة على التوازن بينها وبين أميركا، كما تدرك أن واشنطن تعتقد أنها قوية وتستطيع أن تفعل ما تشاء، في حين أنها في الواقع تفتقر إلى النضج للتعامل مع أزمات حادة أو صراع عسكري مع إيران على الأراضي العراقية عندما يحين الوقت لذلك.هل سيدرك ترامب أن أوباما كان مُحِقاً بالانسحاب العام 2011؟ سيضطر ترامب إلى المغادرة بطريقة أو بأخرى. وسيُجْبِر العراقيون القوات الأميركية على الانسحاب. وهذا سيفتح الطريق أمام روسيا والصين وإيران نحو العراق الذي يعيش فيه نحو 40 مليون نسمة يمثلون سوقاً تفتح الشهية... لقد بدأت شمس الهيْمنة الأميركية بالأفول على هذا الجزء من العالم.
مشاركة :