الفن ليس أشكالا وألوانا بل إنتاج معنى

  • 1/29/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

حين اختار الفنان الأميركي المعاصر فيتو كونسي (1940-2017) دراسة الأدب، وأن يختص في دراسة الشعر، قبل أن يتحول لحقول “فن الفيديو” و”الفوتوغرافيا” و”فن الأداء”، لم يكن يقدم اختيارا تكوينيا شاذا، في حقل تعبيري دأب فيه أعلام الفن المفاهيمي بالولايات المتحدة على تجريب “الكتابة”، منذ ستينات القرن الماضي. لقد نشر فيتو كونسي بعد تخرجه من الجامعة أشعارا وقصصا، بالموازاة مع إنجازاته البصرية، لكن لم يكن القصد هو المزاوجة بين الخطابين لضرورات جمالية وثقافية، وإنما امتلاك القدرة على صياغة نصوص، ما لبثت أن شكلت جزءا من أعماله الفنية، خصوصا في فن الأداء (البيرفورمانس)، لقد كان ينظر إلى الصفحة البيضاء بوصفها حيزا لأداء، ينبغى ألا يبقى سجين الورق، كان الرهان يتمثل (في جزء منه) في القدرة على تجاوز الاحتياج إلى كاتب نصوص مصاحبة، وهو العمل الذي ينجزه عادة جماليون ونقاد فن ومؤرخو الفن، وخبراؤه، وأيضا وبشكل أساس قيّمو معارض الفنون البصرية. وعندما تحدث جوزيف كوسوث، وهو أحد أكثر فناني التجهيز سلطة وحيازة للاعتراف والتكريم من قبل المتاحف وأكاديميات الفنون عبر العالم اليوم، عن الفن المعاصر، فمن منطلق كونه “ليس مسألة أشكال وألوان بل مسألة إنتاج معنى”، والذي دفعه إلى كتابة عشرات الأبحاث والنصوص، ذات الطبيعة الفلسفية والجمالية عن منجزات زملائه وأساتذته وطلبته، وعن أعماله هو نفسه، دون حاجة إلى ناقد فني ينقل مقاصده. كان يكتب تكميلا وأحيانا تمهيدا، ثم تأويلا وتبيينا في كل الأحوال. كانت كتابته تشكيلا من مستوى ثان للكتل المرئية، تسعى لإبراز المخفي عن العين والبصيرة. بناء على هذا الاعتبار فإن النص المصاحب للتجهيز أو الفيديو أو الأداء أو المنحوتة المعاصرة، ليس مجرد خطاب شارح، بل إنه يشكل متنا جوهريا في عملية العرض لأعمال الفنان المعاصر، إنه تكملة للخطاب البصري واختراق بلاغي له، يترجم الرموز والمفاهيم والكتل البصرية عبر مفردات. عملية تتحقق عبر إستراتيجية حوار ممتد في الزمن، بين الناقد والفنان المعاصر، وقد تنتج نصا ينتهي أحيانا قبل أن يستقيم معرض الأعمال البصرية، ويشكل قاعدة له، وقد يزامنه، وقد يتلوه. إنما ليس ثمة احتمال لوجوده دون محاورة، ليس للأعمال وحدها وإنما للفنان نفسه؛ لهذا قد تكون عبارة “نقد فني” هنا مجازية إلى حد كبير، حيث لا يتعلق الأمر بقراءة وملاحظات وتحليل فقط، وإنما بترجمة دلالية وخطابية، ينتجها الفنان نفسه أحيانا. اشتغال لا يمكن تخيله أوان الكتابة عن نص روائي حيث لا يعني الشيء الكثير معرفة الناقد بالروائي شخصيا، ولا يمكن أن نتخيل لجوءه لسؤاله عن سبب اختياره لاسم شخصية أو مدينة، أو تفاصيل حدث، هذه الأسئلة قد تهم صحافيين في برنامج حواري مع الروائي، لكنها آخر ما يمكن أن يحتاجه ناقد الرواية المكتفي بعوالمها النصية والأسلوبية. الأسئلة عن المادة والشكل والأسلوب في المنشآت الفنية وفنّي الفيديو والأداء ضرورة جمالية لبيان القصد، لكنها لا تخلو من عمق فكري، لهذا اعتبر الفنان جوزيف كوسوث في مقال حمل عنوان “الفن امتداد للفلسفة”، أن النقد التقليدي (الذي سماه رسميا) للوحات والأعمال الكلاسيكية والحديثة، يراهن أساسا على الخطاب الشكلي ولا تشغله المفاهيم ذات الكنه الفلسفي. حيث يقول “من الواضح أن اعتماد النقد الرسمي على التشكل يؤدي بالضرورة إلى التحيز للأسلوب الشكلي في الفن التقليدي. وبهذا المعنى، لا يرتبط النقد بـ”المساءلة”… النقد هنا ليس أكثر من تحليل للصفات الحسية لأشياء معينة. لكن هذا لا يضيف أي معرفة (أو حقائق) لفهمنا لطبيعة أو وظيفة الفن. كما أنه لا يعلق على ما إذا كانت الأشياء التي تم تحليلها هي أعمال فنية، أم لا، حيث يتجاهل النقاد الرسميون دائمًا العنصر المفاهيمي في الأعمال الفنية. ولعل ما يلفت الانتباه أكثر من غيره، في هذا المقتطف من مقاله اللامع، هو التركيز على اقتران الفن المعاصر (على الأقل في شقه المفاهيمي) بـ”المساءلة”، وهي وظيفة نقدية قبل أن تكون طبقة من “الحوارية” التي تمتد من مساءلة العمل إلى محاورة الفنان، وينجزها، في حالات كثيرة، آخرون (نقاد ومؤرخون وفلاسفة وقيمون…) معنيون بهذه الحوارية، وبما ستفرزه من “كتابة”. يمكن هنا أن نستحضر على نحو تمثيلي المحاورات الذي عقدها أمثال جيل دولوز وجان جينيه وميشيل هويلبيك مع فنانين معاصرين، وكانت الأعمال المنتجة بطعم الكتابة الخارجة من ضمير الفنان بمفردات الكاتب والفيلسوف، إعادة تغليف للحسي الظاهر والمرئي بالوعاء اللغوي الحامل لعمق وغواية المفهوم البصري.

مشاركة :