عندما جاء خبر مرضه النفسي ثم انتحاره تفاجأ الجميع واعتقدوا انها كذبة إبريل وفي ترقب، كنا ننتظر تكذيبا او توضيحا، لقد كان يبدو قويا مبتسما وسيما وانيقا بما يكفي للحد الذي يجعلك تعتقد ان المشكلات والأمراض النفسية تخجل التقرب منه، لكننا عادة لا نري المشهد بوضوح إلا من زاويه ابعد من تلك التي نعتاد الرؤيه من خلالها. الواقع يؤكد ان الكل يتألم بشكل مختلف، وهذا يتضح من خلال اقل الحركات وتعبيرات الوجه فالشخصيه الداخليه تعبر عن نفسها من خلال الأعين والصوت والإيماء والتعبيرات الحياتيه والنظرات للاخرين و طريقة الحكم عليهم.يكفي أن يكون ابنا لأب وأم يتبنيان ثقافه متواضعه من تراث المجتمع. تلك الثقافه التي تجعل الرجل مرهقا نفسيآ منذ الصغر لا يستطيع ان يكون علي فطرته التي خلق بها، في مجتمعاتنا الذكر يجب ان يكون قويا، تلك القوه السطحيه التي تجعل منه كائنا متعبا منقسما ذاتيا فبالداخل ساحه معركه بين شخصيته الحقيقيه و الشخصيه التي يفرضها عليه البيت و السلطه الابويه والمجتمع فهو يجب ان يبدو قويا لا يعبر عن مشاعره خوفًا من الحكم عليه بالضعف و الدونيه وكأي ذكر يولد يتم برمجته بأفكار مشوهه فهو لا يجب ان يبكي ولا يجب ان يكون خلوقا، ينظر اليه نظرة استنكار اذا بدت عاطفته علي من حوله واضحة.كما يجب عليه ان يتبني مسؤلية شقيقاته ولكن نادرا ما نجد تلك الاسره التي تستطيع ان توضح معني المسئوليه بالشكل الصحيح وانها تعني الاحتواء والصداقه والمساعده وليس التحكم والقلق والذعر وخشونة الصوت يحمله مسئوليه افعال من حوله، فيجد الذكر نفسه يتهاوي بين عاطفته الطبيعيه وبين القلق والخوف من احكام المجتمع الذي يحيط به فيزيد تشتته الي حد ضغطه النفسي.فهو في مجتمع يجعل منه بطلا مشوها يدعي الكمال و يجب ان يجعل كل ما يحيط به حادا ذا مظهر منضبط ، مجتمع يفصله عن ذاته الداخليه ويمنعه من الانصات اليها ثم ينقله الي مرحلة المسئوليات فيري نظرة المجتمع له انه مجرد وظيفه او مركز اجتماعي تلك هي مقاييس نجاح رجولته في مجتمعه فيعتقد الرجل انه مسيطر و حر يوهمه المجتمع بذلك، فهل هو حقا حر ؟نادرا مانجد ذلك الرجل الذي فهم نفسه وفصلها عن مقاييس مجتمعه رافضآ التعكز علي ما تفضل به المجتمع عليه ليعطيه لقب رجل، فالرجل في مجتمعنا يعيش حريه سطحيه وهميه، هذه النسخه المكرره من الرجال المشتتين نفسيآ يعيشون ملحمة من التناقضات لا تنتهي إلا عندما يتمرد وعيهم علي ذلك السجن، فتلك الافكار وذلك القالب الذي وضعه فيه المجتمع بمثابة سجن كبير يجلس داخله معتقدا انه حر وفي الواقع لم تلمس الحريه روحه ابدا فمنذ ان تخطو قدماه الأرض وهو مقيد كاللوحه الموضوعة امام راسمها يرسم بداخلها ذكرا يبدو قويا ، مهيمنا ذا طبع متسلط غير مرحب بالتعبير عن افكاره ومشاعره بل وغير مرحب بافكاره المختلفه ايضًا. يلون عقله بأفكار المجتمع ويجعل منه نسخه مقلدة يسلب منه شجاعه عدم الكمال كي يبدع ويحقنه بنظره خاطئه لكل ما يراه يجعله يعتقد انه حر و في الحقيقه هو مقيد بكل ما فرضوا عليه ان يكونه فنصبح امام شخص لا يفهم او لا يريد ان يفهم ان ما فرض عليه ليس صحيحا ولكنه لا يستطيع ان يكون سواه وإلا نبذ واحتقر من مجتمعه، سيصبح مختلفا والمختلف مكروه ومرفوض.فلا عجب من تعرض بعض الرجال للاختلالات النفسيه المبكره او اقبالهم علي الانتحار إذ تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن عدد ضحايا الانتحار في عام 2016 بلغ نحو 793 ألف شخص حول العالم، وأكثرهم من الرجال، وسجلت أكثر من 15 حالة انتحار للرجال من بين كل 100 ألف رجل في نحو 40 في المئة من دول العالم، إذ يُسجل الرجال النصيب الأكبر من حالات الانتحار، رغم أن مرض الاكتئاب أكثر شيوعا بين النساء.ويرجع هذا الي الاجبار علي كتمان المشاعر منذ الصغر والتظاهر بالقوه وعدم التحدث عن معاناتهم واخفاء مشاعر الضعف وعدم الاعتراف بها بل والهروب منها ايضآ وعدم تحليلها و ايضآ تقدير مدي نجاح الرجل بمدي كثرة امواله وسيطرته ونظرته للامور بما يرضي المجتمع والتربيه المتوارثه الخاطئه كل هذا يجعل الرجل هشا نفسيآ، لا يستطيع ان يتعامل مع مشاكله وانفعالاته بالشكل الصحيح مهما بدا عليه القوه والتحمل.ففي كثير من البلدان اطلقت مبادرات لحل هذه المشكله وتشجيع الرجال للتحدث عن مشاكلهم و ما تسببت فيه الاسره من تناقضات داخلهم وتوعيتهم بأن التحدث وتعديل الافكار قوه وليس ضعفا وتوعيه الأسر بمدي خطوره التربيه الذكوريه علي شخصيه الرجل ومستقبله فمع كل هذه الاسباب لا يجب ان نتفاجأ عند انتحار شخص كان يبدو انه بخير فالجذور لم تكن بخير !!فالرجل في معظم المجتمعات وخصوصا العربيه وضع في قالب وهمي جعل منه انسانا قابلا للانشطار والانهيار لا يستطيع انشاء حياه شخصيه او زوجيه متوازنه فمشكله الانتحار ليس بالضروره ان تكون اسبابها ماديه أو عاطفيه ربما اذا تأملنا اعماق هؤلاء المقبلين علي انهاء تجربتهم سنكتشف العديد من المشاركين في وصولهم الي هذه المرحله سنجد اباء وافكارا ومنابر ومجتمعا وكتبا وعادات واحكاما، سنجد الكثير من الاشياء التي يجب اعادة النظر اليها، سنجد مفهوما يسمي (الرجوله) يحتاج منا الي شجاعه الاعتراف بفشل تعريفاته وما سببته من امراض ومشاكل نفسيه و انسانيه ومجتمعيه، سنجد ضغطا وإرهابا اسريا وفكريا.نحن نحتاج الي الاعتراف بالضعف والألم والاختلاف، نحتاج الي شجاعة التخلي عن كل ماهو ثابت ومتوارث ومؤذٍ، نحتاج الايمان بالتراكمات النفسيه وما تسببه من آلام ، ونحتاج الاعتراف بالآلام وبانها يمكن ان تكون بدايه جديده وليست نهايه فالاعتراف بسلبيات التربيه الذكوريه بدايه حل العديد من المشكلات التي ذكرت والتي لم تُذكر بعد.
مشاركة :