العقل اللاّعب و«ليدولوجيا» الإبداع

  • 1/30/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

لم تكن مقولة «اللّعب» غائبة عن الاهتمام الفلسفيّ بمختلف أنشطة الإنسان، منذ أرسطو إلى جيل دولوز. لكن قد يكون الكتاب الرّياديّ للمؤرّخ الهولندي يوهان هويزنغا Johan Huizinga «الإنسان اللاّعب» (Homo ludens)، المنشور سنة 1938، قبل أن تتواتر ترجماته إلى لغات عديدة، هو الذي ضاعف الاهتمام بمفهوم اللّعب مدخلاً لقراءة منجزات الحداثة، خاصّة في ظلّ انتشار الشّغف الكوني ببعض الرّياضات وفي ظلّ انتشار التّكنولوجيات الجديدة، فإذا برؤية العالَم رؤية لعبيّة على نحو ما نلفي ذلك لدى اليوناني كوستاس أكسيلوس Kostas Axelos. ولعلّ هذا ما يسوّغ تسلّل مصطلح «ليدولوجيا» (اللّعبيّة) إلى مجالات معرفيّة وثقافيّة متنوّعة بما في ذلك الفلسفة. لكن لنشر إلى أنّ استدعاءنا للّعب، بوصفه حدثاً مؤسِّساً للثّقافة ضمن بعض النّظريات الأنثروبولوجيّة، إنّما من منطلق التّقديم لهَمٍّ استيطيقيّ يعنيه أن يختبر منزلة الفنّ بين ما هو معطى طبيعيّ أو واقعيّ، وبين ما هو ضرب من إعادة الاشتغال على هذا المعطى عن طريق المحاكاة أو التّحويل، أو غير ذلك من الوسائط الإبداعيّة التي يتوسّل بها الفنّ، وهي وسائط تشكّل كما بيّن غادامير Gadamer تقنيات لعبيّة. اللّعب فلسفيّاً لنلاحظ أنّ مقولة اللّعب تُسْتَخْدَمُ بتوسّع كبير في مختلف مجالات الحياة على نحو استعاري، يكاد لا يخلو من تبذير لهذه المقولة هنا وهناك، وبإسراف مشطّ أحياناً، حتّى أنّ شعوراً بريْبيّة التّحديد المفهوميّ ينتاب كلّ من ينوي الاضطلاع بهذه المُهّمة: فقواعد العمل، حتّى وإن كان مضنياً، تغدو «قواعد اللّعبة»، والمطالبة باحترام قوانين الحرب، حتّى وإن كانت طاحنة، يغدو «احترام قوانين اللّعبة»، وإذا أصاب عطبٌ ما قطعةً في آلة، قيل عنها بأنّها «تلعب».. وعلى خلاف الظّنّ الشّائع، فإنّ اللّعب والجدّية لا يتعارضان، قد يكون صحيحاً أنّ من يلعب إنّما هو يلعب، كما يذهب إلى ذلك أرسطو، بغرض التّسلية، لكن دون أن ينفي ذلك، حسب أرسطو أيضاً، أنّ اللّعب نفسه ينطوي على جدّية خاصّة به، بل وعلى جدّية مقدّسة. فاللّعب يتوسّل بآليّات جادّة وبمواظبة لا تقلّ جدّية عن المواظبة التي يمكن للمرء أن يحرص عليها في شؤون حياته اليوميّة، بل هو يتدبّر علاقة مخصوصة بالجدّية، حتّى وهو يستخدم خطاباً ضاحكاً، على نحو ما نتبيّن ذلك في الكوميديا الموصومة عادة باللاّجديّة، وبالمقابل، فإنّ التّراجيديا، الموسومة عادة بالجدّية، هي أيضاً ممارسة لعبيّة ممتعة. ولئن كانت المعرفة «العالِمة»، إلى عهد غير بعيد، تعتبر اللّعب من الهوامش. باعتبارها تبوّئ نفسها مكانة فوق غيرها من المنظومات المعرفيّة، بتعلّة أنّها تطلب جوهر الوجود وحقائقه الكلّيّة في الإطار الذي تفرضه جدّية التّفكير والتّأمّل، ساهية عن أنّ الوجود يُقال على أنحاء عدّة بما في ذلك اللّعب. بل إنّ المعرفة التي تعتبر نفسها جدّية، ونعني بذلك تخصيصاً الفلسفة، ليست هي نفسها براء من «شبهة» اللّعب على نحو ما يبيّن ذلك هويزنغا. وربّما جاز أن نراجع الكوجيتو الدّيكارتي، فنتقصّى عن كوجيتو يكون ممتلئاً لعباً دون أن ننفي طبعاً امتلاءه تفكيراً واستبدلناه بالكوجيتو اللّعبيّ. فالحضارة الإنسانيّة تحتفي اليوم بالنّشاط اللّعبيّ أيّما احتفاء، حتّى أنّها تُجريه في مختلف تفاصيلها، فلا تخلو منه دقائقُ الحياة اليوميّة ورقائقُها، فهو يبدو وجوداً مؤسَّساً تَفْقر الحضارة من دونه وتذبل. وهذا ما يدفعنا، هاهنا، إلى التّنويه بالنّزوع الهائل في حضارة اليوم نحو مأسسة اللّعب. وهو، على أيّة حال، نزوع لا يُبرّأ من النّقد، خاصّة من جهة ما يترتّب عنه من أوضاعِ اغترابٍ ناجمةٍ عن تسطيحِ مفهومِ اللّعب وابتذاله، وعن سلعنة لذاتيّة اللاّعب بما يتناسب مع مقتضيات اقتصاد السّوق. ألعاب اللّغة فإذا كنّا نلاحظ تسيّب دلالة اللّعب استعاريّاً، فإنّ ذلك لم يحل دون الاشتغال عليه مفهوميّاً. ويكفي أن نستحضر في هذا السياق مثالين، يتعلّق الأوّل بـ«ألعاب اللّغة» لدى فتغنشتاين Wittgenstein. فهو يقول: «ما أسمّيه ألعاب اللّغة هي طرائق استخدام علامات أبسط من طرائق استخدام العلامات في لغتنا اليوميّة... ألعاب اللّغة هي أشكال للّغة، بواسطتها يشرع الطّفل في استخدام الكلمات. فهي، أي ألعاب اللّغة، تجارب فكريّة يُدرَج ضمنها استخدام غير محدّد لكلمة أو لعدّة كلمات. هو يقارن بين اشتغال اللّغة وبين اعتمال اللّعب. ففي لعبة اللّغة الجملة رمية مثلها مثل رمية لا يكون لها معنى خارج اللّعب. ويتعلّق المثال الثاني بمقاربة دولوز Deleuze لمسألة المفهوم، فهذا الأخير ليس بالنّسبة إليه امتصاصاً بإسفنجة الذّهن لمعطيات التّجربة، ولا هو تمثّل على سبيل المحاكاة لوقائع مادّيّة أو حسّية، وإنّما هو نشاط يكوّن عالَمه المخصوص في تحايث مع العالَم، إنّه ينشئ لنفسه عالَماً افتراضيّاً virtuel، فهو لا يستعيد العالَم في عمليّة حدّيّة منطقيّة، وإنّما هو –أي المفهوم- مثل فعل اللّعب نفسه يتولّى تخليق العالم، حتّى أنّ الأمر ليغرينا بالقول إنّ عمل الفلسفة لدى جيل دولوز عمل لعبيّ. بل إنّ الأمر ليغرينا بالقول إنّ هناك لعبيّة استيطيقيّة في فلسفة جيل دولوز، إذا ما انتبهنا إلى كون الفنّ ولئن بدا مستعيداً لوقائع العالم بمفردات جماليّة، فإنّ ذلك ليس إلاّ تعلّة ليشرع في العمل، أمّا في صميمه فهو لا يفعل غير أن ينفّذ عوالمَه الافتراضيّة. الفنّ لعباً يبدو أنّ بعض المقدّمات الأنثروبولوجيّة بشأن اللّعب، يمكن أن تكون مفيدة لنا في الاهتداء إلى ما يمكن أن ينجم عنه من اعتبار فنّيّ، فـ «القناع الذي هو وجه في اللّعب السّحريّ، والأسطوريّ، والإيمائيّ، والطّقسيّ، يصوّر الشّبه، ويستثير الفتنة، ويثير الرّوع، فيمرّر التّأثير مُقنَّعاً»، بحسب كوستاس أكسيلوس. وهذا ما نتبيّنه بوضوح ضمن ضروب من الفنّ المسرحيّ بشكل مباشر، حيث تتمّ الاستعانة بتقنية القناع، ولكنّنا نتبيّنه أيضاً على نحو استعاريّ في الأدب، حيث يُصنع القناع بوساطة اللّغة نفسها وما توفّره من إمكانات رمزيّة ومجازيّة..، إذا سحبنا تعريف هويزنغا للّعب على الفنّ أيضاً، «اللّعب حركة أو نشاط إراديّ، يُنجَزُ في إطارِ حدودٍ معيّنة من الزّمان والمكان تبعاً لقاعدة متّفق عليها بِحُرّية، فتكون في الوقت نفسه إلزاميّة تماماً»، فذلك يبدو مستساغاً. على أنّنا في مجال الفنّ نجري اللّعب مجرى «الجنس» الذي يتعلّق بنشاط عامّ، ولا نجريه مجرى مهارة محدودة تقتضي نشاطاً مخصوصاً ًًجزئيّاً، فنحن لا نتحدّث عن لعبة بعينها، وإنّما عن صرف طاقة جسديّة أو فكريّة ليس لها من هدف مباشر غير نفسها. وهذا ما ينسحب على لعب الفنّان، حيث يستشعر المتعة (الجماليّة) أثناء صرفه هذه الطّاقة، بما هي متعة مزدوجة، متعة الخلق ومتعة التّذوّق. فاستناداً إلى الفرضيّة المتمثّلة في أنّ النّشاط الفنّيّ، هو بوجه من الوجوه، نشاط لعبيّ ludique، يتيسّر علينا أن نبلور الاعتبار كون الفنّ فعلاً حرّاً متعته حاصلة فيه في حدّ ذاته. وليس الفنّ –في واحدة من أهمّ دلالاته- غير هذا الفعل الحرّ الذي يتمّ اجتراح المتعة منه وأثناء القيام به. ومفاد ذلك أنّ المطلوب هو الانشغال باللّعب من جهة انخراطه ضمن «إنشائيّة» العمل الفنّيّ، فلا يتعلّق الأمر باللّعب غرضاً thème من أغراض الفنّ. لا مراء في أنّ العلاقة بين الفنّ واللّعب قضيّة خلافيّة، خاصّة عندما نميّز بين الأجناس الفنّية، فبعضها واضح الصلة باللّعب مثل المسرح والرّقص، وبعضها ضبابيّ الصّلة، هذا تاريخيّاً قبل أن يقدّم غادامير مقاربة تأويليّة مغايرة لهذه العلاقة. فقد انتبه في مقاربته التّأويليّة للفنّ إلى الطّابع اللّعبيّ للمحاكاة أو التّحويل، أو غير ذلك من الوسائط الإبداعيّة التي يتوسّل بها الفنّ بوصفها، في مجملها، وسائط تشكّل تقنيات لعبيّة. لكنّنا نكتفي في هذه الورقة بالإحالة إلى بعض الأعمال الأدبيّة، وقد نحيل في مناسبة أخرى إلى بعض الآثار التّشكيليّة التي تقتضي مقاربة مخصوصة. فاللّعب في «المقامر» لدستويفسكي ليس فقط موضوعاً للقصّ، وإنّما الكتابة نفسها تتحوّل إلى سردٍ ليدولوجيّ. فما يعتري اللّعب من توتّر وترقّب وتقلّب انفعالات وشدّ أعصاب يعتري الكتابة أيضاً، حتّى أنّ القارئ نفسه يتحوّل إلى متفرّج يحبس أنفاسه عند شروع السّارد/‏الرّاوي في الحديث عن حيثيّات اللّعبة. وفي «المقامر» يخمّن السّارد/‏الرّاوي نفسُه طِباع بقيّة الشّخصيّات، كما يفعل المقامر نفسه وهو يخمّن إمكانات الحظّ. فلاعب الرّوليت (ألكسي إيفانوفتش) لا يقامر بمالِهِ فقط، وإنّما بعواطفه أيضاً وأهوائه وانفعالاته، وبحياته كلّها، فتتحوّل شخصيات الرّواية إلى لاعبين متحلّقين حول منضدة السّرد. نصّ يتولّى سرديّاً تشخيص بسيكولوجيا اللاّعب وكيف يسحبه منطق اللّعبة إلى داخل علاقاته. فماهية اللّعب لا تكمن في وعي من يلعب أو في سلوكه، وإنّما في كونها على العكس تجذبه إلى مجالها وتملؤه بروحها. فالذي يلعب يدرك أنّ اللّعب واقعة تتجاوزه. وكما يغيّر اللّعب اللاّعب، فإنّ الماهية الحقيقيّة للأثر الفنّي هو كون الفنّ يصير تجربة تغيّر من أبدعها، هذا هو المسوّغ الرّئيس الذي جعل غادمير يمرّر الفنّ على محكّ الوساطة اللّعبيّة. أمّا في «لاعب الشّطرنج» لستيفن زفيغ Stefan Zweig، فاللّعب مجال للتّحرّر، لكنّه يتحوّل أيضاً إلى ضرب من الهوس يؤدّي إلى الجنون. وهذه الرّواية لا تكفّ عن استقراء توتّرات اللاّعبين، بحيث تنتقل العدوى إلى القارئ نفسه وتجعله متفرّجاً مرّتين: على نفسيّة اللاّعب وعلى رقعة الشّطرنج. ولئن كان صحيحاً أنّ لعبة الشّطرنج كما يقول أحد أبطال الرّواية «من بين كلّ الألعاب هي الوحيدة التي اخترعها الإنسان للتّحرّر تماماً من استبداد الصّدفة وعدم منح إكليل السّيادة إلاّ للذكاء البشريّ..»، فإنّ قران هذه اللّعبة بالمراهنة الماليّة ألحقها بمجال القمار. ولذلك تحوّلت المنافسة إلى تباغض ومعاداة بين المتنافسين، بحيث نستحضر تخصيص بول فاليري Paul Valéry للّعب بأنّه ما فيه «يَفْرِق القلق ما قرنه المرح». لكن بيتر هندك Peter Handke (الحاصل على جائزة نوبل 2019) سينقل اللّعب من مربّعات الشطرنج ومن أرقام الرّوليت وألوانها إلى ميدان كرة القدم. ففي روايته «قلق حارس المرمى لحظة ضربة الجزاء» يقترف بلوخ، حارس المرمى السّابق، جريمة قتل وتتحوّل حياته من بعدئذ إلى هروب مستمرّ. اللاّفت هو أنّ بيتر هندك يُشخصّ الحالة النفسيّة لبلوخ طبقاً لحيثيات لعبة القدم من تماس، ومجاوزة، ومراوغة، وحماس، وترقّب، وحبس أنفاس.. ولا يتأتّى لبطل الرّواية أن يوقف اضطراباته المُشطّة إلاّ عندما كان يتفرّج على مباراة في كرة القدم، ورأى كيف نجح حارس المرمى في التّصدّي لضربة جزاء. أمّا محمود درويش فيُكثّف في واحدة من قصائده الأخيرة، «لاعب النّرد»، التّجاذب المتوتّر بين خاصّيتين للّعب: الخضوع لقواعد مسبقة والصّدفة التي ترافق حركة الرّمية، تكثيفاً يكشف عن حضور هذه الخاصّية للّعب بوصفه هَمّاً وجوديّاُ، أو بوصفه كشفاً عن اللّعبة التّراجيديّة للحياة: «أنا لاعب النردِ، أربح حيناً وأخسر حينا أنا مثلكم أو أقل قليلا... ولدْتُ إلى جانب البئرِ والشجرات الثلاث الوحيدات كالراهباتْ ولدْتُ بلا زفة وبلا قابلةْ وسُميتُ باسمي مصادفةً وانتميْتُ إلى عائلةْ مصادفةً» فمنطق الصدفة هو الذي يجعل العالَم، بما هو وجود لعبي، مجالاً للحيرة والقلق لا ينشدان إلا أفق المساءلة أبداً، على نحو من المعاودة المختلفة التي تتراءى واضحة في قصيدة «لاعب النرد»، ولكن ضمن بنية للقول معقودة على واحد من قوانين اللعب، أي المعاودة والتكرار، وفي تماثل صوري مع الوجوه الستة لحجر النرد، بما من شأنه أن يعزّز البعد الإيقاعي للقصيدة. ** ربّما جاز القول بأنّ الانزياح من مجال المنافسة اللّعبيّة، إلى مجال الأدب هو ضرب المجازفة اللّعبيّة، أو هو مضاعفة اللّعب بالكتابة التي تغدو عندئذ مِراساً ليدولوجيّاً. وهو ينطوي على غايته في ذاته، بالإضافة إلى كونه مصحوباً دائماً بشعور التّوتّر والغبطة، وبوعي أنّ «الوجود متحقّق على نحو مغاير» مقارنة بـ«الحياة العاديّة».

مشاركة :