آخر ما كان ينقص الوزيرة الجديدة للثقافة في الجزائر مليكة بن دودة أنباء صفقة القرن التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب مساء الثلاثاء الماضي في حضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهي المتهمة سلفا بنيات التطبيع والهرولة نحو إسرائيل، كما يقال، مع أنها قادمة من فضاء الفلسفة والمحاورات والجدل والعقل. ترث بن دودة وضعا معقدا مشتبكا، سيطر لسنوات على مبنى وزارة الثقافة، سكنه وزراء بشر كل حسب رؤيته ووضعه بجعل الثقافة تصطف بقوة ومتانة في المحيط الواسع المتنوع والثري داخل مجتمع جزائري مازال تقليديا للنخاع، يرنو ببطء للتحول إلى مجتمع حداثي عصري، يواكب ما يحدث حوله من تطور مذهل ونمو كبير وازدهار متخم بالإبداع. مر على الوزارة خلال السنوات الأخيرة ثلاثة وزراء طبع كل واحد منهم بصمته في جسد وروح الثقافة الجزائرية، أخفقوا ونجحوا، مكنوا البعض من البروز وهمشوا آخرين، أنفقوا أموالا كبيرة وأسرفوا في الإنفاق. كانت خليدة تومي المسجونة حاليا أكثرهم نفوذا وتوغلا في مفاصل الثقافة، سحبها الرئيس المعزول عبدالعزيز بوتفليقة من حضن المعارضة الشرسة التي كان يقودها حزب التجمع الديمقراطي، وفتح لها نعيم السلطة وإغواءاتها، وأعطاها كل الصلاحيات المفتوحة دون رقيب وحكيم. تولت تومي حقيبة الثقافة لمدة تقارب العشر سنوات فصعدت بها إلى الأعالي والآفاق، حسب رأي الكثيرين، وهوت بمقومات الأمة إلى الحضيض، حسب رأي آخرين. أسست مهرجانات كبرى وأعلت من شأن الكتّاب والكتاب. وقامت بإغداق الإمكانيات تلو الإمكانيات أمام الجميع. كان هذا بفضل طفرة الأموال التي امتلأت بها خزينة الدولة بفضل ارتفاع أسعار البترول وقفزت ميزانية الوزارة من صفر دولار إلى الملايين من الدولارات. طبعا هذا الاندفاع الكبير والحرية المطلقة ليد الوزيرة في كل الشأن الثقافي لم يرقّا للكثيرين وتعرضت لأشرس الهجمات والأقاويل والحروب والصراعات. لم تكن تبالي بالأمر فهي واثقة أن كل هذا زوبعة في فنجان.. لا تلبث أن تهدأ ثم تعاود الظهور بأقل الأضرار فالرئيس هو السند والمعين والحائط الذي تتكئ عليه. ثم وقعت الواقعة وأنهيت مهامها بعد سنوات عرفت الثقافة في عهدها باعتراف حتى خصومها نوعا من التحرر والنهوض، رغم النكسات والهزات والإخفاقات في أمور أخرى كان يراها المتتبعون أهم وأولى من ترف الثقافة. عقلية المؤامرات التي تتحكم بالأفكار المسبقة داخل شبكات التواصل الاجتماعي أطلقت السهام على بن دودة، من المتعلم ونصف القارئ إلى غوغاء الطريق، ووضعت الوزيرة حتى قبل أن تضع رجليها في الوزارة داخل سلة التطبيع والهرولة المضمرة استخلفت بالمنتجة السينمائية والمناضلة في صفوف حزب جبهة التحرير الوطني نادية لعبيدي التي قضت قرابة السنة في المقعد الفاخر للوزارة تحاول أن تستوعب صدمة الإطلالة المغرية على النفوذ وشهوات الكرسي، ولم تلبث أن بدأت في نبش ملفات الوزيرة السابقة. كانت الخطوة خاطئة وجريئة من الأساس خاصة أن منظومة حكم بوتفليقة آنذاك مازالت تحكم وتأمر. ودفعت ثمن النبش والحفر في أخطر الملفات الغامضة لتسيير ميزانية الثقافة انتهت بتنحيتها تنحية مؤلمة وهي التي كانت تأمل في إصلاح الأضرار والكسور التي وجدت عليها الوزارة كما قالت، وأوكلت مهمة شن الحرب عليها للأمينة العامة لحزب العمال لويزة حنون المقربة من رئيس المخابرات توفيق والمحامية المجاهدة زهرة ظريف بيطاط وهؤلاء كلهم كانوا كتلة واحدة متراصة وملاذا للوزيرة خليدة تومي في عز قوتها وفي أوج عزلتها. وجدت السلطة في شخص عزالدين ميهوبي الطيّع والمطيع والأقرب للمثقفين والكتاب على اعتبار أنه شاعر وكاتب وإعلامي ويعرف أدق أغوار المشهد الثقافي الأقرب لتولي المنصب فعينته وزيرا للثقافة. امتدت فترة توليه الحقيبة لما يقارب أربع سنوات، أعاد فيها ميهوبي الثقافة إلى منطقة الجدل والخصومة، وتفرق دمها بين قبائل عديدة رافضة ومستسلمة وغاضبة ومستفيدة، كان مروره على مبنى الوزارة أشد وأقوى فترة نكوص وتقهقر وحرب اندلعت ضده من الوسط الذي كان من المفترض أن يكون معه وإلى جانبه لكنه سير الحقيبة بمزاج غريب وغامض ودون أن تــُرى أي علامة موشومة لامعة تحفظ وتدون في ذاكرة الثقافة الجزائرية ما عدا القليل من المنجزات لا تقاس بحجم ما تمنى العديد من المثقفين أن يقوم بها ميهوبي. عالم الفيلسوفة اليهودية قدمت بن دودة المولودة بالغرب الجزائري وأستاذة الفلسفة بجامعة الجزائر، قبل الاستوزار مادة لافتة على إحدى القنوات الخاصة أسمتها “فيلو تولك”، استضافت فيها كتابا ومثقفين وأساتذة ومحللين وشعراء بعضهم معروف وغيرهم غير ذلك. فتحت ”بلاتوه“ خصصته لمواضيع نادرا ما يتم تناولها؛ الحب، الجسد، الموت، الضحك، الدجل والخرافة، كرة القدم، التخفي والحضور وغيرها. أدارت كل هذا دون صخب وعنف، نقاشات كانت تنزل من علياء التنظير والتجريد والتفلسف إلى بساط يروح ويأتي بين المعرفة والجمال والعمق والفكاهة والتفرد. أعطت أريحية كاملة للضيوف يسألون ويحاججون ويطرحون البدائل ويفككون الأنساق والمفاهيم ويقدمونها على طبق زاخر بالتصورات والحلول والممكنات بعيدا عن ضوضاء التعالي والترفع عن الخوض في مواضيع تبدو للوهلة الأولى غير ذات شأن، ولكنها تقض مضاجع المجتمع المخملي والراكد والتقليدي الذي يعيشه الفرد الجزائري. وتتبعت، كأكاديمية وباحثة، حياة الفيلسوفة الألمانية ذات الجذور اليهودية حنة آرندت، واستقرأت مسارها وتشعبات أفكارها فأصدرت كتابا بعنوان “فلسفة السياسة عند حنّة آرندت”، التزمت فيه بمنهجية نقدية واضحة لفهم رؤية الفيلسوفة لتاريخ اليهود والأحداث المرتبطة بها من وجهة نظر سياسية. الحراك والوزيرة تحرك الشارع وأطاح بمن أطاح، وبرزت أسماء وشخوص ومواقف وتيارات وخرجت من عمق الشارع ملل ونحل من كل أفق وصوب وحدب، أبانت عن عقول لاهبة ولاهثة للتغير، وتحسن موقف المثقف وهفت أحلامه وهواجسه نحو الأفضل والأسمى. وكانت بن دودة ضمن هذا النسيج المتلون والمكثف ترقب وتنخرط وتجادل وتصارع وتكتب وتحتج وتنتفض. إنه وقت الوقت وصوت الحق والفرصة. دونت على صفحاتها ما كانت تراه الفيصل في الرأي، اجترحت لغة كانت تطوف في الشارع تشحذ من لهب المعاناة والحقرة والتهميش التي وسمت حياة الجزائري، اختصرتها في بضع جمل وومضات وعبارات واستحضرت ما كانت تراه أهلا للأصلح والأقوم لهذه الثورة، الحراك، الانتفاضة، أيا كانت التسميات اختلف فيها أو اتفق حولها فقد ألبستها برؤيتها وفلسفتها وآمنت بالأحلام الكبرى التي رافقت كل مثقف أصيل محب للحياة والحرية أو حتى لذلك الفرد البسيط الذي يتربع ملكا على الشارع. هل تغير كل هذا بعد أن خرجت من ثوب الحراك إلى فسحات السلطة؟ حجبت الوزيرة مناشيرها المنثورة في الفضاء الأزرق، ألبت الخطوة عليها الأصدقاء قبل الخصوم. كان عليها، حسب بعضهم، أن تحافظ على شفرات التواصل كما يفعل قادة ووزراء وسادة وكتاب عالميون، لأن هذا الفضاء يتيح الاحتكاك والاطلاع المباشر حول زمن وهموم اللحظة ومآلاتها، الرغبات والهواجس والحقائق والتنبيهات والإشارات، ولكن حكم السلطة ومبررات ما يعرف بواجب التحفظ وخوف الاختراق قبضا على القرار حتى ولو كان ضد إرادتها، فالأنظمة العربية خاصة مازالت تحترز من كل ما من شأنه أن يكون دخيلا على الأخلاق والأسرار والمنافع والحكم، والأهم كي لا تتسرب المعلومة، رغم أن العالم لم يعد مغلقا تغلفه غلال القيم التي استهلكت ضمائرها وأخلاقها، وأصبح مفتوحا وواسعا وشفافا يكفي النقر على زر النت حتى يغدو بين يديك كما لو أنك ستلمسه. كتاب التحديات ستواجه بن دودة، بلا شك، موجات العواصف التي ستهب فور مباشرة الفعل الحقيقي، وحالما تتعرف على الدواخل والمخارج التي تقبض على مفاصل الوزارة. الأمر ليس هيّنا، نظرا للإرث الثقيل الذي تركه الوزراء السابقون. إرث انقسمت حوله طبقات الكتاب والشعراء والمثقفين والفنانين والمسرحيين والسينمائيين وغيرهم… ستجد الوزيرة هذا مستترا وخفيا ومتواريا وواضحا وساطعا في كل موقع وأين ما حلت، وحيث ما سمعت الأصوات الغاضبة أو المتمردة أو المستكينة ترتفع من عمق الجزائر ومن هوامشها، ستجد السخط والرفض وستجد المباركة والفضل. واقع ثقافي وفني وسينمائي ومسرحي وموسيقي بلا أفق يروم النهوض من ركام ليل مدلهم أصاب حياة وعقل وروح الجزائري وجمد طموحاته واندفاعاته، خضع طيلة سنوات إلى المناورة والمحاباة والإقصاء والموالاة والعبث والتكرار والرداءة والسطحية رغم المحاولات التي كانت خاطئة هنا وصحيحة هناك. على حواف وزارة الثقافة قامت الحكومة بإنشاء كتابتين للدولة؛ واحدة للسينما وأخرى للإنتاج الفني. وهو أمر خلق بلبلة وتساؤلات محيرة عن نجاعة هذه الخطوة في ظل وجود وزارة كاملة بمديريات كثيرة تغطي كل القطاعات الثقافية والفنية وفي وجود مراكز وهيئات تعنى بهذه المجالات. هل كان الأمر عن دراسة ودراية وخطط لتنفيذ برنامج الرئيس تبون الذي ركز في حملته على السينما والفنون؟ أم أن الأمر تم في عجالة ودون الأخذ بنظر الاعتبار الميزانيات والموارد والمهام؟ أسندت الحقيبة الأولى ليوسف سحيري وهو ممثل وفنان معروف بأدواره التاريخية في الأفلام والمسلسلات، والثانية لسليم دادة الملحن والموسيقي. وما أثار الانتباه هو أنهما ينحدران من نفس المنطقة وقد قيل إن الرئيس تبون نفسه انتابه الغضب لهذه الهفوة وهذا التعيين مثله مثل تعيينات أخرى جاءت مفاجئة وفي بعض الأحيان غريبة ولم تخضع لمقاييس التمحيص والتدقيق. أول تمرد تواجهه بن دودة قاده الشاعر والسيناريست رابح ظريف وهو أحد مديري الثقافة، حين كتب متهما رموز الثورة بالخيانة، فأنهيت مهمات ظريف وزج به في السجن وسط كل هذا صدمت الوزيرة بأول تمرد قاده أحد مدراء الثقافة الشاعر والسيناريست رابح ظريف حين دخل في مناوشات مع أحد المخرجين وكتب يتهم أحد رموز الثورة وهو الشهيد عبان رمضان بالخيانة، ما خلف موجة عارمة من ردود الأفعال والاستنكار خاصة وأنه يأتي في ظرف حساس جدا تمر به الجزائر حيث لا تحتاج إلى فتن تزيد من لهيب النار. أفسد هذا التصرف الهدوء الذي ترغب فيه أعلى السلطات في الجزائر، وقد تم إنهاء مهام المدير وزج به في السجن بعد أن أصدرت مصالح الوزارة بيانا تشجب فيه هذا التصرف خاصة أنه يأتي من لدن إطار من إطاراتها. تحتاج بن دودة إلى نفس عميق وسعة بال خاصة وأن المطالب بدأت تتطاير من لدن الكل، مطالب تتزايد وتتعدد في الأوساط الثقافية، إصلاح الأعطاب، تفكيك الخيوط السميكة التي عششت في أروقة الوزارة وفي مختلف الهيئات والمديريات التابعة لها، إيجاد صيغ للحوار تخرج عن المألوف والمكرر كفيلة بفتح معابر للإصغاء وتنفيذ ما يتم وضعه من سياسات تنفيذا حقيقيا يرصد الخلل ويقترح الحلول للذهاب بالممكن والمتاح نحو الأفضل والأحسن. التفاؤل بما ستفعله الوزيرة قد يتباطأ قليلا. فقد بدأت في تشكيل فريقها ومحيطها جاءت بهم من خارج الوزارة، وكان أول الواصلين الروائي والإعلامي أحميدة عياشي، خطوة نظر إليها البعض باحتشام، وقلل من شأنها آخرون، فقد اتهم الكثيرون هذا الأخير بترك منصبه في الحراك وقبوله بمنصب مضاد له. ولأن عقلية المؤامرات تتحكم بالأفكار المسبقة في عقول الرموز الزرقاء داخل شبكات التواصل الاجتماعي فقد أطلقت السهام على بن دودة من القاصي والداني، من المتعلم ونصف القارئ إلى غوغاء الطريق، ووضعت الوزيرة داخل سلة التطبيع والهرولة المضمرة مع الكيان الصهيوني والمتشبعة بأفكار الفيلسوفة اليهودية، وبما أنها عضو كغيرها من أعضاء عديدين يحملون جنسيات عالمية بما فيها الإسرائيلية في “شبكة النساء الفلاسفة” التابعة لليونيسكو، فقد غدت بين ليلة وضحاها الخطر والخطأ، وبدأ حراس المعبد النهش في الضمير والنية والشخص. فهل بدأت مليكة بن دودة في رسم استراتيجية جديدة للثقافة الجزائرية تبتعد بها عن كل ما تم رسمه؟ الوضع شديد التعقيد، ولعلها اليوم بحاجة إلى حجر الفلاسفة الشهير ليحوّل الثقافة من لحظة الكمون والعجز إلى لحظة الصفاء والثورة الفكرية.
مشاركة :