نشأ الحاج محمد علي زينل، في بيت يعدّ أغنى البيوت التجارية جاها ومالا ومركزا اجتماعيا في الحجاز، وكان أبوه وعمّه من الشخصيات ذات النفوذ الواسع في محيطهم، فهو لذلك ممن يولدون وفي أفواههم ملاعق ذهبية، بل أكثر من ذلك، فقد وُلد على مهاد وثير من الترف والعزة والجاه، ونشأ على الأسلوب الذي وُلد عليه، وكان أمل والده أن يخلفه في سلطانه المالي والأدبي العريض، فيضيف إلى ثروته التليدة ثراء، وإلى تجارته الواسعة تمكينا وأزرا. ولكنه كان موهوبا، فقد خُلق وفي عنقه رسالة، ولم يتجاوز السنوات الأولى من شبابه المبكر، حتى بدأ يفيق على أنغام رسالته العلوية الخالدة، أسئلة باتت تقلقه وتثير أشجانه: ما هذا الجهل المطبق في أمة نقلت إلى العالم الإسلامي جميع علومه ومعارفه؟! كيف تمكّنت الأمية من هذا الشعب الذي يتزعم شعوب العالم الإسلامي، بحكم قيامه على أمانة البيت العتيق، واستقبال الوفود الإسلامية من كل صوب؟! لقد تركت هذه الأحاسيس في نفس هذا الرجل العصامي ثورةً عاتية، صرفته عن شؤون المال والثراء، وطرحت به في ميادين مثل التيه الذي يفقد السائر فيه معالم أمته بأكملها من طور إلى طور، يريد أن يمحو صفحة مظلمة من التاريخ ليكتب صفحة مجيدة مشرقة. أين المال؟! وأهله لا يوافقون على بذل ثروتهم في الطريق التي أنكروا عليه المضي فيها. أين الرجال؟! وهذا ميدان احتلته الأغراض السيئة، وتركزت فيه سياسة الحرص على إبقاء هذه الأمة جاهلة، لتعيش خاملة حتى يستطيع خليفة المسلمين وخادم الحرمين الشريفين الخانقان السلطان ابن السلطان التمكين لنفسه بحكمة الطائش للبلاد، بسبب سلطانه على الحرمين الشريفين. لقد بدأت رسالته بالهرب من البيئة التي يسودها الجهل إلى حيث ينهل الناس من مناهل العلم الصافية، فهرب من جدة إلى مصر إلى الأزهر ليدرس، وليدرس فقط!، ولكن والده الذي تبين هربه، وكان يعرف حقيقة ما يجول بخاطره، لمع في ذهنه أن ابنه إنما انتقل إلى مصر وإلى الأزهر، لأنه محطّ آماله وموطن هواه، فلحقه وأقنعه بالعودة معه ليبدأ معه النشاط من محور آخر، محور تأسيس المدائن الحيّة الصالحة المنتجة، ليكافح بها المدارس التقليدية العثمانية المتأخرة، وقد بحث بين معارفه عمن هو مستعد للاستجابة لدعوته، فهيّأ الله له من المواطنين أخوين من بيت صالح، هما: الشيخ عبدالرؤوف جمجوم، والشيخ صالح جمجوم، وشخصان آخران: أحدهما سوداني والآخر هنديّ، أولهما الشيخ عبدالله حمدوه، والآخر الشيخ عطاء الله الفاروقي. فكان عليه أن يدبر المال اللازم لدعوته، وعليهما المساعدة في تحقيق هذه الدعوة، ولم يبخل الشيخان عبدالرؤوف وصالح جمجوم بالإسهام بجانب من المال، لشد أزر الدعوة وتعضيدها وابتدأت القافلة تسير في التيه، وابتدأ الوالي العثماني وأنصاره وشيعته يحاربون هذه الحركة التقدمية، فأخذوا يبثون سمومهم بين أولياء الطلبة، لينفروهم من الإقبال على مدارس الفلاح التي أسسها الحاج محمد علي زينل في مكة وجدة، كما أخذوا يكيلون التهم لأصحابها بأنهم دعاة استعمار وأيدٍ للإنجليز وحرب على الإسلام وخوارج على الدين. لقد كانت الحكومة العثمانية تسعى إلى تتريك العرب، والقضاء على لغتهم وطمس معالم تاريخهم وكانت تؤدي ذلك وهي في حالة ضعف شامل وتفكك، وكانت تشعر بالوعي يدب في الأمة العربية، فكانت تسارع إلى خنقه والقضاء عليه، وكانت تنظر نظرة مريبة إلى دعوة الحاج محمد علي زينل لنشر الثقافة الحرة، والقضاء على الجهل، ورفع مستوى التعليم، وتمكين اللغة العربية والتاريخ العربي والتعاليم الإسلامية الحقة، فاستعدت عليهم جميع القوى لتحطيم الدعوة والقضاء عليها في مهدها، ولكن الشخصية الاجتماعية القوية التي كان يستمتع بها هذا المصلح العظيم، والمكانة التي كانت لوالده وبيته، والتشجيع الأدبي الذي كان يلقاه من قلة الناس، ضافرته على تحقيق أهدافه سرّا في الغالب وعلانية بقدر المستطاع، ولكن العزيمة التي كانت تفيض بها نفسه القوية، وإيمانه الراسخ بأن الله سيحقق غايته وينصره على مناوئيه، ذلك هو ما كان يثبّت قدمه ويعينه على وضع العلامات الواضحة المنيرة في أرجاء هذا التيه. أسس مدرسة الفلاح الأولى في جدة، ورصد جميع ما ورثه من ثروة والده لتوسيع آفاق محله التجاري، كما أغدق جميع أرباح تجارته على المدارس، وكان قد أسس مدرسة ثانية أخرى في مكة. ولم تمض فترة من الزمن حتى ظهر لمدارس الفلاح أثر عظيم في تعميم الثقافة، وخلق الجيل المزوّد بالعلوم والمعارف. *1980 *الأديب والوزير السابق للحج والأوقاف في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز (1910- 2012)
مشاركة :