البريكست لم يخرج من نقطة الصفر

  • 2/1/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

سيبدو هذا العنوان غريبا لكثيرين، خاصة أنه يأتي بعد أن دخل قرار البريكست حيز التنفيذ فجر اليوم! من المثير للاستغراب أن ينهمك جميع المعلقين داخل بريطانيا وخارجها بالحديث عن السيناريوهات الكارثية أو المكاسب الافتراضية، دون حديث يذكر عن أن المعركة لم تغادر نقط الصفر وقد لا تغادرها إطلاقا. ما حدث قبل ساعات هو مجرد حبر على ورق بعد أكثر من ثلاث سنوات ونصف من انقسام تراجيدي حاد عند مفترق الطرق. أخيرا دخلنا في الطريق المجهول المليء بالألغام ومفترقات الطرق، التي سوف لن تكف عن طرح إمكانية العودة إلى الطريق الآخر، وربما الاكتفاء بورقة توت رمزية دون أن يتغير شيء في واقع ما كنا عليه قبل استفتاء 23 يونيو 2016. كان البريطانيون منذ ذلك التاريخ في معركة شد الحبل، وفجأة سقط الحبل من أيدي أحد الفريقين، ولم يعد بإمكان الطرف الآخر مواصلة شد الحبل وسيجد نفسه حائرا بشأن ما الذي سيفعله بذلك الحبل. سيكتشف حتى أنصار البقاء في الاتحاد الأوروبي أن أفضل ما حصل في ورطة البريكست هو فوز حزب المحافظين الكاسح بقيادة بوريس جونسون في الانتخابات الأخيرة، والذي لولاه لبقي الانقسام والشرخ الحاد في المجتمع البريطاني. ذلك الفوز هو أفضل خيارات مواجهة أوهام البريكست وفحص أسسه وأوهامه دون صراخ وعويل وتصعيد على حافة الهاوية. ما كان بالإمكان تشريح البريكست بهدوء وفحص علمي وعملي على طاولة مستقرة، لو كان حزب المحافظين قد خسر الانتخابات الأخيرة. وكان البريطانيون سيبقون في دوامة الحل والصراع لفترة طويلة. بل ما كان لجرح البريكست أن يندمل، لو تم إجراء استفتاء ثان وفاز فيه أنصار البقاء بأغلبية ساحقة، لأن خيار الانفصال كان سيواصل الحياة في قلوب كثير من البريطانيين باعتباره الحل السحري لجميع مشاكلهم. لذلك فإن فوز جونسون، وهو أحد أبرز شخصيتين في معسكر البريكست (مع نايجل فراج) هو الحل الأمثل لفحص الأوهام والحقائق من أجل خروج هادئ من تلك الورطة. الآن فقط ستبدأ بريطانيا البحث عن مستقبل علاقتها مع الاتحاد الأوروبي والبدء بفحص ألغام البريكست دون تهديد وصراخ من المعارضين، الذين جمدت الانتخابات الأخيرة جميع أوراقهم. ما الذي يفعله جونسون بالحبل الذي في يده دون أن يكون هناك من يشده على الطرف الآخر؟ قبل يومين من دخول الطلاق حيز التنفيذ، صوت برلمان اسكتلندا لإجراء استفتاء جديد للاستقلال عن المملكة المتحدة، وسوف يغلي هذا الملف في موازاة الخطوات التي يتخذها جونسون خلال الفترة الانتقالية الممتدة حتى نهاية العام. أما أيرلندا الشمالية، فتبدو أقرب إلى الانفصال. وكانت هناك إشارة مدوية في الانتخابات الأخيرة، حين صوت سكانها لأول مرة في تاريخها لمرشحين يؤيدون انضمامها إلى أيرلندا أكثر من تصويتهم لمرشحي الأحزاب الموالية لبريطانيا. وتكمن أكبر أوهام البريكست في إمكانية إبرام اتفاقات تجارية مع دول العالم، أفضل من الاتفاقات الحالية من خلال الاتحاد الأوروبي. كيف يمكن لبريطانيا أن تنتزع شروطا تجارية من الصين أو اليابان أفضل من الشروط التي يتمتع بها التكتل الأوروبي، الذي يمثل أكثر من ربع اقتصاد العالم؟ هناك أيضا الطريق المسدود لفصل الاقتصاد البريطاني المتناغم بشكل كلي مع الاتحاد الأوروبي، الذي يمثل أكثر من نصف شراكاته التجارية الخارجية، حيث يمكن لزعزعة قواعد تلك الشراكة أن تؤدي إلى شلل اقتصادي غير مسبوق. ماذا عن مصير حي المال في لندن، الذي يمكن أن يؤدي فقدانه لجواز التعامل المالي مع أوروبا إلى انهياره كليا. قبل 15 شهرا من الآن قدرت مؤسسة إرنست أند يونغ، حجم الأصول والعمليات المالية التي نقلتها شركات الخدمات المالية من بريطانيا إلى أوروبا بأكثر من تريليون دولار منذ استفتاء البريكست وحتى أكتوبر 2018. ذلك الرقم لا يمثل سوى القمة الطافية من جبل الجليد ولا بد أنه تضاعف منذ ذلك الحين، لأن تقرير المؤسسة استند فقط إلى الإعلانات والإفصاحات العامة التي قدمتها 20 مؤسسة مالية مدرجة في البورصة بموجب قواعد الشفافية. تلك البيانات لا تشمل الخطط التي لا تزال قيد الدراسة ولا خطط المصارف والمؤسسات المالية إذا ما تغيرت قواعد التناغم المالي مع الاتحاد الأوروبي خلال المفاوضات الشاقة المقبلة. يمكن لبوريس جونسون أن يتشدد في شروط التفاوض لو كان يواجه معارضة شرسة من معسكر البقاء في أوروبا، لكن دفع الثمن في كل تلك الملفات سيكون صعبا في ظل عدم وجود من يتحدى قراراته داخليا. لذلك يبدو من المرجح أن يكتفي بخروج شكلي حين تغلي أوراق تفكك المملكة المتحدة ويصدم بحقائق الثمن الباهظ للطلاق الأوروبي وحين يتكشف زيف أوهام البريكست. البرلمان الأوروبي وجه رسالتين عميقتين في الأغنية التي رددها أعضاؤه بعد أن منحوا الضوء الأخضر لوداع بريطانيا بأغلبية ساحقة في جو مشحون بالعواطف. الأولى هي أن الأغنية اسكتلندية في إشارة إلى إمكانية انفصال اسكتلندا، أما الثانية فتكمن في كلماتها المؤثرة التي تقول “إنه ليس الوداع فقط… إلى اللقاء سنعاود اللقاء يوما ما. إلى اللقاء”. رحلة البريكست لم تخرج حتى الآن من نقطة الصفر ومن غير المستبعد أن تنفجر فقاعاتها ليبقى الوضع على ما هو عليه ويكون الطلاق بالاسم فقط. هذا إذا حدث أصلا!

مشاركة :