تغيير الأقدار والمصائر بالانتقال الخارق عبر الزمن كان يرتبط حينا بالبطولة الفردية القائمة على المغامرة، وأيضا بالعلم ونظرياته، وفي كل ذلك بقي تحدي الزمن كما هو، بينما الإنسان العالق بين الأزمنة لا تتغير الكثير من الأشياء من حوله. ومن هناك بقي موضوع عبور الزمن هاجسا إنسانيا وتحديا طبيعيا وموضوعا فلسفيا أيضا. وفي فيلم “الموجة” للمخرج غيل كلابن ثمة معالجة أخرى مختلفة عمّا ذكرناه آنفا، إنها معالجة ذات طابع كوميدي بالدرجة الأولى والشخصية الرئيسية ليس في نيتها خوض أيّ مغامرة، لكن الأقدار قادتها إلى الدخول في ذلك العالم الغريب. وتبرز هنا شخصية المحامي فرانك (الممثل جوستن لونك) وهو متخصّص باسترجاع الديون من العاجزين عن السداد، وقد جمع ما يكفي من أموال بإلقاء العشرات منهم في السجون بسبب إفلاسهم أو عجزهم عن سداد ديون وقروض في ذمتهم. يعيش فرانك حياة مرفهة مع زوجته شيريل (الممثلة سارا مينيتش) وهي الأخرى سليلة عائلة ثرية. يذهب فرانك على مضض بصحبة صديقه جيف (الممثل دونالد فيسون) إلى أحد النوادي الليلية، وهناك ستنقلب حياته رأسا على عقب. لا يعرف المحامي بالضبط ماذا حصل؟ ولا تسعفه ذاكرته ماذا شرب أو تعاطى؟ سوى أنه صار يتنقل فجأة بين الأزمنة والتواريخ في مشاهد ومواقف متلاحقة لا تخلو من الكوميديا. فها هو عائد إلى منزله وقد تم تنويمه وأُخذ ما في رصيده وسرقت محفظته ليجد نفسه في وسط اجتماع لمجلس إدارة الشركة التي يعمل فيها، ثم ينتقل فجأة إلى عالم خيالي مليء بالهلوسة ليكتشف أن تيريزا (الممثلة شيلا فاند) الفتاة التي كانت بصحبته قد اختفت هي أيضا، ولهذا سوف يبدأ بالبحث عنها. أما في داخل شركة المحاماة، فهو مطالب بتقديم عرض لأعماله بغرض التقييم، لكنه بين فترة وأخرى ينتقل إلى أزمنة متشعبة خيالية وبعضها سوريالي وهو عاجز عن الإلمام به. هذا النسيج البصري الذي تم تقديمه في هذا الفيلم أُريد به تحطيم الحواجز الزمانية والتمرّد عليها، وفي نفس الوقت تقديم شخصية كوميدية تجعل من عبور الزمن مجرد متعة وتسلية. وعلى الجانب الآخر وبموازاة الخط السردي الكوميدي، كانت هنالك نظرية المؤامرة التي كان يقودها مديره المباشر ربما لغرض إفشاله وقبل ذلك إحراجه والسخرية منه. لكن السؤال هو، ماذا لو كان الذي أجبر فرانك على أخذ جرعة من مادة كيمياوية تسبب الهلوسة، هو مديره المباشر المتنكر الذي يستدرجه ويضعه أمام تحدّ لا يستطيع التخلّص منه. في وسط الكوميديا كان على فرانك خوض المغامرة إلى أقصاها، الذهاب إلى مصدر المخدرات وحبوب الهلوسة في النادي الليلي الذي سقط فيه مغشيا عليه أو منقطعا عن العالم الخارجي، لكنه سوف يكتشف شخصية أخرى ويقع بينهما صراع يفضي إلى استعداد فرانك لدفع أموال لذلك الشخص. المفارقات الكوميدية في هذا الفيلم سوف تتشعب بنا إلى مسارات عدة، فيما الشخصيات تدخل في أجواء صراعات درامية ومفارقات ومواقف غير مستقرة، وكل ذلك في إطار البحث عن حقيقة ما جرى في تلك الليلة، ولماذا لا يستطيع فرانك جمع شتات نفسه لكي يصل إلى الحقيقة. ربما بدا ظاهريا أن تلك الكوميديا سوف تستحوذ على قصة الفيلم، لكن تلك القصة تتشعب إلى الجريمة والعنف من خلال إخفاء تيريزا، وهي نقطة مفصلية تؤرق فرانك لأنه من خلالها قد يتمكّن من معرفة حقيقة ما جرى له في تلك الليلة. وفي المقابل هنالك الزوجة التي بعد أن تكتشف حقيقة انخراط زوجها في سهرات بناد ليلي خسر على إثرها أمواله تقرّر أن تهجره من دون أن تنفعه توسلاته لها لثنيها عمّا هي عازمة عليه. تبدو شخصية فرانك أكثر طرافة وهو يعيش الوحدة، لكنه ينجذب إلى تيريزا لا لسبب غير العثور عليها حية ترزق ليخوض معها ومع صديقه جيف صراعا جديدا. الكوميديا التي سادت على أغلب المشاهد جعلتنا أمام تداخل لافت للنظر ما بين ما هو خيالي وما هو كوميدي، إذ غالبا ما تتم معالجة عملية الانتقال عبر الزمن في إطار جامد مفض إلى العنف والصراعات بين شخصيات تسعى إلى التنقل ما بين الأزمنة الثلاثة، لكننا هنا لا نلمس ذلك، بل بالعكس هناك مساحة واسعة من السخرية في مقاربة العديد من الظواهر. أدّى جوستن لونك واحدا من الأدوار المتميزة، لاسيما وأن أغلب مشاهد الفيلم تقع على عاتقه، وعليه أن يقنعنا بجدوى ذلك كله، جدوى تلك المغامرة وأبعادها ومن تداخل فيها وكيف تم الزجّ به في تلك الانتقالات الزمانية الغريبة. لكن لا بد لتلك الكوميديا من نهاية تراجيدية، فكيف إذا ما شهدنا مقتل فرانك في حادث دهس، ليصنع من خلاله مخرج الفيلم غيل كلابن نهاية مأساوية؟ واقعيا، نحن نشاهد ذلك الموقف، لكنه لن يغير كثيرا من تلك الكثافة الكوميدية التي أُشبع بها هذا الفيلم.
مشاركة :