عندما قررت المملكة المتحدة الأسبوع الماضي منح شركة هواوي الصينية دورا في الجيل الجديد من البنية التحتية للاتصالات، كان عضو بارز في مجلس الشيوخ الأمريكي صريحا في استنكاره. قال توم كوتون، العضو الجمهوري من أركنسو: "السماح لشركة هواوي ببناء شبكات الجيل الخامس في المملكة المتحدة اليوم يشبه السماح للاستخبارات الروسية ببناء شبكة هاتفها خلال الحرب الباردة. سيكون لدى الحزب الشيوعي الصيني الآن موطئ قدم لممارسة تجسس واسع النطاق على المجتمع البريطاني وزيادة النفوذ الاقتصادي والسياسي على المملكة المتحدة". حتى الحكومة البريطانية، في تبريرها لقرارها، اعترفت بأن "هواوي" خيار مثير للجدل. دومينيك راب، وزير الخارجية، وصف شركة الاتصالات الصينية بأنها "مورد عالي الخطورة" بسبب مخاوف من هجمات سيبرانية محتملة على شبكات الاتصالات. إذن، لماذا سمحت لندن لشركة هواوي بتوفير المعدات لبنيتها التحتية لاتصالات الجيل الخامس، على الرغم من التحذيرات الصارمة من واشنطن، فضلا عن تحذيرات محلية في بريطانية نفسها بشأن المخاطر التي تهدد الأمن القومي؟ الإجابات تنطق بكثير عن صدارة الصين الناشئة في التكنولوجيا العالمية، وفشل الجهود الأمريكية في إعاقة بطلة الشركات الصينية، كما تنطق عن الظروف غير المؤكدة الخاصة بالمملكة المتحدة في الأسبوع الذي غادرت فيه أخيرا الاتحاد الأوروبي. لكن التفسير الأكثر وضوحا لقرار لندن هو أن شركة هواوي - المدعومة بقوة بكين الضاغطة - تتحول بسرعة إلى قوة لا تقاوم. خاطرت الحكومة البريطانية بإغضاب واشنطن لسبب بسيط هو أنه ليس لديها كثير من الخيارات الأخرى. "من الصعب مقاومة جاذبية هواوي. اتصالات الجيل التالي تقدم بثمن رخيص اليوم"، كما يقول جوناثان هيلمان، زميل أعلى في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وهو مؤسسة فكرية مقرها واشنطن. يضيف: "التكاليف الحقيقية ستأتي لاحقا، لكن كما يظهر قرار المملكة المتحدة، لا تستطيع الولايات المتحدة منع البلدان الأخرى من المشاركة. التكلفة وليس الأمن هي السبب وراء ذلك، وسيتطلب التنافس تقديم بدائل أكثر جاذبية". جاذبية "هواوي" في المملكة المتحدة تجارية بالدرجة الأولى. شركات الاتصالات البريطانية، مثل "بريتش تليكوم" و"فودافون"، تعتمد بالفعل على الشركة الصينية في جزء كبير من البنية التحتية الحالية للجيل الرابع. شركة EE، المملوكة لـ"بريتش تليكوم"، استخدمت "هواوي" لتزويد ثلثي معدات الراديو للجيل الرابع، واستخدمت "فودافون" معدات الشركة الصينية في معظم أنحاء بريطانيا، خارج لندن، وفقا لمسؤولين تنفيذيين في الصناعة. بشكل حاسم، تكنولوجيا الجيل الخامس تستخدم معدات شبكة الجيل الرابع الحالية قاعدة لها، ما يعني أن "هواوي" تتمتع بمكانة راسخة. رفض بريطانيا استخدام شبكة الجيل الخامس يعني استبدال معدات شبكة الجيل الرابع من "هواوي" المثبتة حاليا، الأمر الذي تترتب عليه تكلفة كبيرة على شركات الاتصالات، وهو ما لا يمكن أن تتحمله المملكة المتحدة أو شركات الاتصالات بسهولة. في الواقع، حتى بموجب الاتفاقية التي تم إبرامها الأسبوع الماضي – تفرض على شركة هواوي حدا بنسبة 35 في المائة من الحصة السوقية في شبكة الجيل الخامس – ستتحمل "بريتش تليكوم" تكاليف تبلغ 500 مليون جنيه على مدى الأعوام الخمسة المقبلة، لأنها ستزيل بعضا من معدات الجيل الرابع الزائدة من "هواوي"، كما يقول مسؤولون تنفيذيون. ومن المتوقع أن يكون المستفيد الرئيسي هما شركتا "إريكسون" السويدية و"نوكيا" الفنلندية. يقول تنفيذيون في مجال الاتصالات إن الجاذبية التجارية الأخرى لـ"هواوي" هي التكنولوجيا الخاصة بها. فعلى الرغم من أن الشركة الصينية العملاقة تلاحقها الادعاءات بأنها سرقت الملكية الفكرية، إلا أنها لم تبرز أكبر شركة لصناعة معدات الاتصالات في العالم فحسب، لكن أيضا الأكثر تطورا. في عام 2018 أنفقت 15.1 مليار دولار على البحث والتطوير، أكثر بكثير مما أنفقته "نوكيا" و"إريكسون" مجتمعتين. الزيارات إلى مقر الشركة المستقبلي في دونجوان، جنوبي الصين، تكشف عن وجود مختبرات مليئة بالفنيين الذين يطورون تكنولوجيات على أعلى درجات التطور، مثل الذكاء الاصطناعي والسيارات ذاتية القيادة وأحدث جيل من رقائق الكمبيوتر. مثل هذه البراعة ساعدت الشركة على احتلال مكانة بارزة في العالم. حتى الآن، أبرمت 65 عقدا لتثبيت معدات شبكة الجيل الخامس مع شركات الاتصالات في جميع أنحاء العالم، وما يقارب نصف هذه الشركات يقع في البلدان الأوروبية. هواتفها الذكية بتكنولوجيا الجيل الخامس كانت أيضا الأفضل مبيعا في العالم العام الماضي، التي تفوقت على "أبل"، شركة التكنولوجيا الأمريكية العملاقة، التي لم تطلق حتى الآن هاتفها بتكنولوجيا الجيل الخامس. يقول جان وانج، محلل التكنولوجيا في شركة جافكال دراجونوميكس Gavekal Dragonomics، إن مثل هذه الطموحات العالمية يمكن أن تتعزز أكثر بسبب قرار المملكة المتحدة بشأن شبكة الجيل الخامس، خاصة من خلال ألمانيا. يضيف: "قرار (المملكة المتحدة) يقدم أنموذجا مفيدا لأنجيلا ميركل، التي تبحث عن طريقة لمواصلة شراء معدات هواوي مع استرضاء المتشددين بين خبراء الأمن الألمان، وبعض الأقسام في الصناعة الألمانية، وأجزاء من تحالفها في مجلس النواب". السبب الرئيسي في أن شبكة الجيل الخامس أصبحت نقطة اشتعال من الناحية الجيوسياسية هو أن هذه التكنولوجيا تمثل أكثر من مجرد ترقية تدريجية في الاتصال. بالنسبة لمؤيديها، شبكة الجيل الخامس ستوفر العمود الفقري لجزء كبير من الاقتصاد الحديث. يكتب سايمون جيلدينج، ضابط كبير سابق في سلاح الإشارة الأسترالي، وهو فرع من أجهزة الاستخبارات في كانبيرا: "قرارات شبكة الجيل الخامس هي دلالة على واحدة من تلك اللحظات المحورية الهادئة التي تبلور تغييرا في الشؤون العالمية". يضيف جيلدينج: "هذا جزئيا لأن التكنولوجيا نفسها تعد بأن تكون ثورية، لا تربط البشر فقط لكن تربط أيضا كل جهاز فيه شريحة ذات اتصالات فائقة السرعة ونطاق عريض عالي التردد وفترة استجابة أقل. هذا يعني أنه إذا كانت لديك المفاتيح لشبكات الجيل الخامس، فسيتم ائتمانك على الجهاز العصبي الذي يمر عبر العمود الفقري لكل دولة تستخدم معداتك والتعاقد معك لخدمتها". ليس الجميع في صناعة الاتصالات مقتنعا جدا بشأن إمكانات شبكة الجيل الخامس. لكن في ظل هذه الخلفية الاستراتيجية، فإن عدم وجود شركة أمريكية لصناعة معدات الاتصالات قادرة على إنتاج مجموعة كاملة من معدات شبكة الجيل الخامس يعد من الحالات الشاذة الصارخة. لفهم كيف حدث هذا، من الضروري العودة إلى منتصف التسعينيات عندما أقرت الولايات المتحدة قانون الاتصالات الذي أضعف الأبطال الأمريكيين، مثل شركة لوسنت للتكنولوجيا، عن طريق إغراء عدد كبير من الوافدين الجدد إلى السوق. مع تعرض هوامش أرباحها للضغط في الداخل، استهدفت شركة لوسنت المبيعات في السوق الصينية سريعة النمو لدعم سعر السهم الضعيف. لكن السلطات الصينية أصرت على أن جميع شركات صناعة المعدات الأجنبية - كثمن للدخول - ملزمة بتسليم التكنولوجيا والمعرفة لمختبرات الأبحاث الحكومية وشركاء العمل. واحدا تلو الآخر، اندفع الرؤساء التنفيذيون لأكبر شركات معدات الاتصالات بأعداد كبيرة إلى بكين في أوائل العقد الأول من الألفية للتعهد بتوطين التكنولوجيات وقواعد الإنتاج الخاصة بهم. جون روث، رئيس مجلس إدارة شركة نورتيل للشبكات، الشركة القائمة في كندا مع تاريخ يزيد على 100 عام، لخص الشعور السائد الذي كان أنموذجيا في الصناعة. قال في عام 1999 "لدينا التزام طويل الأجل تجاه سوق الصين، للمساعدة على تطوير صناعة اتصالات محلية ذات مستوى عالمي". أحد المستفيدين من هذه البيئة الغنية بالنقل كان رين تشنجفاي، مؤسس "هواوي". هذه الأيام، الرجل البالغ من العمر 75 عاما هو أحد قادة الشركات الأكثر تكريما في الصين، لكن في ذلك الحين كان فقيرا جدا لدرجة أنه لم يكن لديه منزل خاص به، وكان يعيش بدلا من ذلك في شقة مستأجرة مساحتها 30 مترا مربعا. يقول إن أي نقود إضافية توافرت لديه كان ينفقها على فريق من الباحثين الذين احتفظوا بأكياس نوم تحت مكاتبهم حتى يتمكنوا من العمل أثناء الليل. من المفارقات أن شركة نورتيل نجحت في إنتاج الميزة التكنولوجية للصين لكنها فشلت في حماية ميزتها. تقدمت بطلب إفلاس في عام 2009، وأطلقت تدفقا من المواهب البحثية التي استحوذت عليها "هواوي" المتحمسة. في الواقع، كثير من الملكية الفكرية التي تشكل أساس عروض الجيل الخامس الحالية من "هواوي" جاءت مع كبار العلماء من شركة نورتيل في أوتاوا. في عام 2006 تعثرت شركة لوسنت أيضا وبيعت إلى شركة منافسة فرنسية، تاركة أمريكا الشمالية من دون شركة كبيرة لصناعة معدات الاتصالات. الشركة التي كانت فيما مضى بطلة التكنولوجيا وراء مختبرات "بيل" هي الآن جزء من شركة نوكيا الفنلندية. لبعض الوقت، بدا من المناسب تماما أن تحل "هواوي" محلها. لكن كانت لدى واشنطن أفكار أخرى. في سلسلة من الخطوات بلغت ذروتها العام الماضي بإدراج "هواوي" على "القائمة السوداء"، تم إخراج الشركة الصينية من السوق الأمريكية، باستثناء وجودها الهامشي في المجتمعات الريفية. وضعها على القائمة السوداء حظر بشدة تصدير المكونات الأمريكية ذات التكنولوجيا الفائقة إلى الشركة الصينية. في الوقت نفسه حاولت الولايات المتحدة إقناع حلفاء الأمن الآخرين الذين يشكلون معها تحالف الاستخبارات Five Eyes - المملكة المتحدة وأستراليا وكندا ونيوزيلندا - بتجنب استخدام معدات "هواوي" أثناء بناء شبكات الجيل الخامس الخاصة بهم. القرار البريطاني الأسبوع الماضي بشأن شبكة الجيل الخامس كشف بشكل صارخ الطبيعة المتنامية للنفوذ الصيني. أهمية القرار تكمن في أن المملكة المتحدة من المفترض أنها تتمتع "بعلاقة خاصة" مع الولايات المتحدة، من خلال الوقوف جنبا إلى جنب في المسائل الاستراتيجية. لكن بدلا من ذلك ابتعدت لندن، متجاهلة إلى حد كبير تحذيرات واشنطن القاسية من أن "هواوي" يمكن أن تدرج "أبوابا خلفية" في برمجيات شبكة الجيل الخامس التي تشغلها في المملكة المتحدة، بالتالي فتح أسرار البلاد أمام التجسس. جزء من هذه الاستجابة ينبع من حقيقة أن المملكة المتحدة، التي تواجه مشهدا يتسم بالجفوة في فترة ما بعد "بريكست"، تشعر أن عليها تحويطا، وموازنة، واعتماد أشكال دبلوماسية مختلفة للحفاظ على علاقات ودية مع القوتين العظميين المتصارعتين في العالم. حتى الآن، قررت إدارة ترمب تجنب المواجهة العامة مع المملكة المتحدة بشأن "هواوي"، لكن يمكن أن تتوقع لندن استمرار الضغط الأمريكي بشأن هذا الموضوع. أثناء زيارة إلى المملكة المتحدة الخميس الماضي، شدد مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي، على أن الصين هي "التهديد الرئيسي في عصرنا". لكنه أضاف أن علاقات أمريكا الوثيقة مع المملكة المتحدة "ليست في خطر". قال: "أنا واثق بأننا قادرون على العمل معا لتنفيذ هذا القرار والعمل على تصحيح هذا الأمر".
مشاركة :