الهيئات الثقافية والمدينة الإعلامية.. رأسمالنا الرمزي وقوتنا الناعمة

  • 2/6/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

إن هذا الحراك الثقافي المستمر يعطي رسالة واضحة أن انبثاقة الوعي وتجدّدها مستمرة في إشعاعها المعرفي والحضاري متّخذة من إنسان هذه الأرض منطلقاً ومرتكزاً لمشروعاتها ورؤاها المستقبلية.. الحراك الثقافي الذي تعيشه المملكة يؤكد أن الثقافة مُعطى إنساني عالمي يتجاوز الشكل التقليدي لمفهوم الثقافة باعتبارها ظاهرة عالمية «كوسموبولوتانية» بل وتُعدُّ سلاحاً من أسلحة العولمة الآخذة في التمدُّد وتوسيع نطاق حضورها في شتى مناحي وحقول الحياة ورأسمالياتها الرمزية. وليس بخافٍ على أي متابع ما تمثّله الثقافة من قيمة عالية لدى الدول المتحضّرة التي نجد أنها جعلتها في قلْب استراتيجياتها سواء الاقتصاية أو السياسية أو حتى العسكرية. وبعيداً عن تعدُّد مفاهيم الثقافة وكثرة تعريفاتها وتفريعاتها؛ وصعوبة القبض على تعريف واحد جامع ومانع لها؛ إلا أنها في النهاية ملمح حضاري لا غنى لأي دولة عن استثماره وتوظيفه في خدمة أرضها وإنسانها باعتبار أن الثقافة مرتبطة بعدة معانٍ أجملها الكاتب البريطاني الذائع الصيت تيري إيغلتُن في كتابه الصادر حديثاً «الثقافة»؛ حيث ربط مفردة الثقافة بكونها تعني تراكماً من العمل الفني والذهني وبالصيرورة التي يحصل بها الارتقاء الروحاني والذهني وبالقيم والعادات والتقاليد والممارسات الرمزية التي يوظفها الرجال والنساء في الحياة؛ وأخيراً الطريقة الكلّيّة المُعتمَدة في الحياة؛ ويشير إيغلتُن إلى الناقد الفذ تي. إس. إليوت حيث يستخدم الأخير مفردة «الثقافة» أحياناً بطريقة توصيفية تعني «طريقة الحياة لجماعة محددة تعيش معاً في مكان واحد بعينه» ويلفت إلى أن هذا التعريف للثقافة ليس بالطبع أفضل التعريفات المتاحة وأكثرها فطنة ومقبولية إلا أنه يخلص إلى أن صياغة إليوت لمفهوم الثقافة تتقاطع تقاطعاً صارخاً مع استخدامه المعياري للمفردة عندما يتحدث عن الثقافة، ذلك المعطى الذي يجعل الحياة مستحقّة للعيش؛ فالثقافة بحسب رؤية إليوت هي أمر يختص بالعادات، والدين، والفن والأفكار، وهي الشيء «الذي يجعل أي مجتمع مجتمعاً بحق». بالأمس -وفي خطوة مهمة تؤكد الصولة الجسورة لقيادتنا المظفّرة واعتنائها بالثقافة وتثمين دورها الحضاري والتاريخي- قرر مجلس الوزراء إنشاء عدد من الهيئات وهي: (الأدب والنشر والترجمة، والمتاحف، والتراث، والأفلام، والمكتبات، وفنون العمارة والتصميم، والموسيقى، والمسرح والفنون الأدائية، والفنون البصرية، وفنون الطهي، والأزياء) وتفويض سمو وزير الثقافة رئيس مجالس إدارات الهيئات بممارسة اختصاصات تلك المجالس؛ وهو ما اعتبره سمو وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود أن هذه الهيئات الثقافية تؤسس لبنية تحتية متينة لقطاعاتنا الثقافية، وهي بداية لمرحلة جديدة ومهمة من تاريخ ثقافتنا، وقدم سموه شكره لخادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد على دعمهما للثقافة والمثقفين. ولا شك أن هذا القرار والقرار الآخر الذي تلاه المتضمن توقيع سمو وزير الثقافة مشروع أكبر مدينة متخصصة في الإعلام والتي ستكون وجهة مميزة عالمياً ومتعددة اللغات بالإضافة لكونها مركزاً إعلامياً وثقافياً وتقنياً رائداً في المنطقة. ويشمل المشروع قطاعات في الثقافة والإعلام والتقنية، والتي تؤثر بشكل مباشر على الصناعة الإبداعية المستقبلية، كالنشر والبودكاست والأفلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، والإعلان الرقمي والتعليم الرقمي والواقع المعزز وتطوير المحتوى، والتصوير والتصميم والأزياء والصحف والمجلات والإذاعات والمحطات التلفزيونية، وغيرها. ويقدم المشروع خدمات متنوعة لتغطية احتياجات قطاعات الثقافة والإعلام والتقنية، كـالاستديوهات، وخدمات تمكين الثقافة، والمكاتب، والمناطق السكنية والتجارية، والضيافة، وحاضنات أعمال. ويستهدف المشروع -كما جاء في سياقه الخبري- شبكات وسائل الإعلام في المنطقة، وكبريات منصات التجارة الإلكترونية، وتقنيات الأقمار الصناعية، والهيئات الدولية والإقليمية المتخصصة، والمشروعات الإنتاجية الواعدة والهيئات الوطنية المتخصصة في قطاع الثقافة والإعلام والتقنية والابتكار والمعرفة، وتعطي الفرصة لتطوير وتعزيز فرص النمو للشركات الواعدة الصغيرة والمتوسطة. ومن المتوقع أن يساهم المشروع في الناتج المحلي، ويخلق وظائف مباشرة وغير مباشرة، ويتسع لأكثر من 1000 منشأة. لا شك أن هذا المشروع وما سبقه من مبادرات ومشروعات تؤكد دعم خادم الحرمين الشريفين وصاحب السمو الملكي ولي العهد لمسيرة البناء والتنمية والازدهار لتحقيق المحاور الرئيسة الثلاث التي تعتمد عليها رؤية 2030 «مجتمع حيوي واقتصاد مزدهر ووطن طموح». والثقة تتجدد بأن يكون هذا المشروع وجهة مميزة عالمياً ومتعددة اللغات، ومركزاً إعلامياً وإبداعياً وتقنياً وثقافياً رائداً. إن هذا الحراك الثقافي المستمر يعطي رسالة واضحة أن انبثاقة الوعي وتجدّدها مستمرة في إشعاعها المعرفي والحضاري متّخذة من إنسان هذه الأرض منطلقاً ومرتكزاً لمشروعاتها ورؤاها المستقبلية في ممازجة رائعة بين ثقافته الأصيلة المتجذّرة في التاريخ وبين متطلّبات واستحقاقات المرحلة التي نعيشها حاضراً بما تشكّله من تحديات في عالم آخذ في التمدّد والتعولُم ولا يقبل بغير الإبداع والوثبات الحضارية الفارقة لتندغم في نسيجها الكوني الفسيح.

مشاركة :