جرى استبعاد نشأت زارع، وهو كبير أئمة بالأوقاف وخطيب بأحد مساجد محافظة الدقهلية، في شمال القاهرة، ومعاقبته بالعمل كباحث دعوة، ومنعه من صعود المنبر أو أداء الدروس الدينية، وشنّ عدد من رجال الأزهر هجوما عليه، باعتباره تطرق لما يشبه “التابوهات”. عكس التعاطي مع ما طرحه نشأت زارع من نقد للفتوحات الإسلامية، حجم الخطوط الحمر تجاه كل ما يرتبط بانتقاد التراث، حتى لو كان الأمر يرتبط بحقبة زمنية بعينها، بذريعة أن الاقتراب من هذه النقطة يمسّ بالدين. ويبدو أن ضغوطا مُورست من جانب قيادات داخل الأزهر على وزارة الأوقاف لمعاقبة كبير الأئمة، لأن طرح الأخيرة للفكرة جاء بعد أيام من تمجيد أحمد الطيب، شيخ الأزهر، للفتوحات الإسلامية، حينما ذكر أنه بفضلها استطاع المسلمون أن يضعوا قدما في الصين والأخرى في الأندلس. وقال الداعية نشأت زارع في تصريح لـ”العرب”، إن أخطر ما في تقديس الفتوحات الإسلامية بشكل مطلق، أن التنظيمات الإرهابية تستخدمها مبررا لها في الجهاد ضد كل من يختلف معها في الفكر والعقيدة، بالرغم من أن الدين الإسلامي حدد الجهاد في الدفاع عن النفس، وليس استخدام الترهيب والقتل وسبي النساء في نشر المعتقد”. وأضاف “عندما دخل تنظيم داعش إلى سوريا والعراق، طبّق نفس المنهج المأخوذ عن تاريخ الفتوحات الإسلامية، وما تنص عليه بعض كتب الفقه، بأن الإمام إذا دخل بلدا عُنوة له أن يقتل الرجال ويسبي النساء، وبالتالي لا يمكن تفنيد ادعاءات المتطرفين قبل نقد التراث المرتبط بالفتوحات وما يثار حولها من مغالطات ضد الإنسانية”. ويؤكد دعاة التجديد، أن الدين الإسلامي لم يدعُ إلى جهاد الطلب، أيّ المبادرة بالاعتداء على الآخرين بحكم أنهم مختلفون في العقيدة، ونص القرآن على حرية الديانة، لكنه في المقابل حث على جهاد الدفع، أيّ الدفاع عن النفس والوطن ضد المعتدين، لكن ما فهم خطأ عن الفتوحات الإسلامية أنها تعطي الحق لمناصري الدين ليمارسوا العنف. ويدرك أصحاب هذا الرأي أن إعادة التحقيق في تاريخ الفتوحات أول خطوة على طريق كشف مزاعم وادعاءات التنظيمات المتطرفة، لأنها تعتمد على قرائن ومؤشرات هذا التاريخ وتستثمرها لتبرير توجهاتها حاليا وبأثر رجعي، مستغلة حالة الجمود الفكري وغياب الفكر العقلاني وردع المساعي الفردية التي تنفي الخرافات. وتتعامل غالبية المؤسسات الدينية في مصر مع مسألة نقد التاريخ الإسلامي على أنها تستهدف تشويه الدين والاعتداء عليه، وتقدس كل أمر يرتبط بما هو إسلامي، بغض النظر عن زمانه والظروف والبيئة التي نشأ فيها، وكثيرا ما تعتبر الذين يقتربون من هذه النقطة أنهم يزدرون الدين الإسلامي، ومن الضروري محاكمتهم. وسبق للشيخ محمود شلتوت، شيخ الأزهر الأسبق، أن أنكر الفتوحات في كتاب “الإسلام عقيدة وشريعة”، وقال إن الحرب دفاعية وليست هجومية، وما هو موجود في كتب التراث بما يسمى جهاد الطلب باطل، وهو الرأي الذي تسبب له آنذاك في أزمة مع عناصر الجماعات الإسلامية، لكنه رفض التراجع وأصر على موقفه. ويرى مفكرون أنه لا يمكن البدء في تجديد الخطاب الديني دون اتخاذ خطوة شجاعة بفتح ملف تاريخ الفتوحات، طالما أصبحت ستارا يتخفّى وراءه أصحاب التوجهات المتطرفة التي تستسهل تكفير واستباحة دماء كل المختلفين معها، ويدعون إلى الجهاد ضدهم، سواء أكانوا من المواطنين الأبرياء أم المؤسسات الرسمية. ويستند هؤلاء إلى اعتراف الفاتيكان السابق بأخطاء الحروب الصليبية، وطلب العفو عن خطايا الكنيسة الأوروبية بوقوفها وراء هذه الحروب، واضطهاد المفكرين الذين عارضوها، في حين يصر الأزهر في عصر الانفتاح والتحرر الفكري والثقافي على نصب محاكم تفتيش لمن يحاولون التغريد خارج سرب التراث. وأكثر ما يثير استهجان كبير أئمة الأوقاف المصرية، أن رموز المؤسسات الدينية أصبحوا يصادرون رأي كل من يحاول التجديد، دون الدخول معه في نقاش جاد للوصول إلى الصواب، وتصحيح الأخطاء عن قناعة، وهو ما يجمد تفنيد حجج المتطرفين. أخطر ما في تقديس تاريخ الفتوحات الإسلامية، أن التنظيمات الإرهابية تستخدمها مبررا لها في الجهاد وأوضح نشأت زارع، لـ”العرب”، أن الإصرار على تقديس تاريخ الفتوحات واعتبارها جزءًا من الدين كارثة، والخطر الأكبر أن يتم وضع تراث المسلمين وتاريخ الإسلام في كفة واحدة، لأن ذلك يخدم أهداف التيارات الإسلامية المتشددة بشتى انتماءاتهم الفكرية ويجعلهم قوة عصيّة على الكسر، ويبرر كل جريمة إرهابية تُرتكب باسم الإسلام. ويبرهن المؤيدون لهذا الرأي على صحة موقفهم، بأن بعض الصحابة أوقفوا الفتوحات بعدما وجدوا أنها ضد التسامح الذي دعا إليه الدين، ومن هؤلاء علي بن أبي طالب وعمر بن عبدالعزيز، ما يعكس أن الصحابة أنفسهم اختلفوا على صحتها، بحكم أنها أعمال بشرية قابلة للصواب والخطأ. وتظل المعضلة الأكبر أن الجمود الفكري لدى بعض قادة المؤسسات الدينية انتقل إلى المناهج الدراسية، وهو ما عززه زارع بتأكيده أن طلاب الصف الثالث الثانوي الأزهري يدرسون قدسية الفتوحات، وكثيرا ما طالب مفكرون بتغيير ذلك، لأن تحريض الشباب في سن المراهقة على الجهاد خدمة مجانية للمتطرفين، ووضع حد لكتب الفقه التي تمجد الفتوحات والاعتداء على المختلفين في الفكر والعقيدة، أصبح فريضة لنشر التسامح. وبالنظر إلى طريقة التعاطي مع المجددين كلما طرحوا قضية جدلية للنقاش، من غير المتوقع أن يحدث تقدم في ملف التجديد طالما استمرت بعض المؤسسات الدينية في تنصيب نفسها حارسة على الدين، وأصرت على انتهاج “التنوير الظاهري” لتبدو أمام الحكومة أنها معنية بالحداثة، في حين أنها على أرض الواقع تتعمد إقصاء كل من يحاول النبش وراء حجج المتطرفين لتفنيدها.
مشاركة :