تطور المناهج النقدية في الأدب العربي المعاصر

  • 2/8/2020
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

. ما هي مآخذ رجاء النقاش على لويس عوض وكيف فندها الكاتب؟ . النشاط الثقافي تعدُّدٌ وحوارٌ وصراعٌ وتفاعلٌ وهو ما لا يكون في غياب الحرية جهاد فاضل   يتابعُ أحمدُ عبدالمعطي حجازي ملاحظاتِه حولَ الشاعرين الكبيرين أحمد شوقي أمير الشعراء وحافظ إبراهيم شاعر النيل، فيقول إنّ التخلّف عن العصر لم يضرب هذَين الشاعرَين الكبيرَين وحدَهما، بل ضرب نقّادهما المصريّين أيضًا، ذلك أنّه في الوقت الذي كان فيه نقّاد شوقي وحافظ يَعيبون عليهما تقليدَ الشعر العربي القديم واستخدام الصّور العتيقة البالية في الموضوعات العصرية، والجهل بثقافة أوروبا وشعرها، مُنتهين إلى أنّ شعر شوقي وحافظ لا يثبت أمام النّقد الحديث، في هذا الوقت، كانت المناهج التي يستخدمها هؤلاء النقاد قد أصبحت هي الأخرى عتيقة بالية. إنّ نقّاد شوقي وحافظ، وهم العقّاد والمازني وطه حسين، ينطلقون في نقدهم من الأفكار والمبادئ النقديّة التي تبلورت في إنجلترا وفرنسا خلال النصف الأوّل من القرن التاسع عشر. لكن هذه المبادئ لم تصل إلى نقّادنا إلا في الربع الأوّل من القرن الماضي، أي بعد أن ذبلت في أوروبا بعشرات من السنين، ولم يعدْ لها وجودٌ إلا في تاريخ الأدب ودروس المُحافظين من أساتذة الجامعات.   كان العقّاد يرى أنّ شوقي «أقلّ الناس فهمًا للذهن الأوروبي والعبقرية الأوروبية»، ويقول عن حافظ إنّك «لا تجد بين العارفين باللغات الأجنبية أحدًا أشبه منه بمن يجهلونها»،أما المازني فيسمّي حافظ إبراهيم «أبا جهل». ويقارن طه حسين بين شوقي وحافظ ونسيم وبين الرمزيّين والرومانسيين الفرنسيين «فلو أنّ شوقي قرأ شعر الشعراء الفرنسيين الذين عاصروه في شبابه، ولو أنّه اختلف إلى أنديتهم في باريس حين كان يُقيم فيها لتغيّر مثله الأعلى في الشعر، ولما نظر إلى القدماء من العرب ولا إلى لامارتين ولافونتين وأضرابهما من الفرنسيّين إلا كما ينظر إليهم الشاعر الحديث». وهو ينعى على شوقي أنه لا يعرف بودلير أو فرلين أو سيلي بريدوم أو مالارميه من الشعراء، ولا يذكر تين أو برغسون من الفلاسفة. وهذا هو أيضًا ما يقوله بعد ذلك محمّد مندور الذي كان يتمنّى أن يتفاعل شوقي بالرومانسية والرمزية والواقعية أيام إقامته في فرنسا، وأن يخرج منها بفلسفة شعريّة جديدة. التعالي يرى أحمد عبد المعطي حجازي أنّ هذا الموقف لا تنقصه الغيرة على الشعر العربي، لكنّ فيه شيئًا كثيرًا من التعالي والانبهار بالثقافة الأوروبيّة وتجاهل ظروف الأدب العربي وقوانين تطوّره. «إن عدم وجود أثر كبير للشعراء الفرنسيّين في شعر شوقي ليس دليلًا على عدم قراءته لهم. ومن الجائز أنه قرأهم ونسيهم أو قرأهم ولم يفهمهم. فقليلٌ من الفرنسيين هم الذين فهموا مالارميه، ورامبو لم يُقرأ في فرنسا إلا بعد أن اكتشفه السورياليون بعد حوالي نصف قرن على وفاته». التجديد التجديد بنظر حجازي لا يتحقّق بالرغبة فيه وحسب، بل بشروطٍ موضوعيّة تفرضُ نفسَها على الشعراء حتى رغم إرادتهم ولا يكون بالتقليد. إنّ لنا أنْ نطالب الكاتب أو الشاعر العربي بأوسع معرفة مُمكنة بالثقافة الأوروبيّة، لكننا لا نستطيع أن نطالبه بأن يأخذ عنها إلا ما يحتاجُ إليه عملُه، وما تقدر لغته وفنّه وبيئته الثقافية على هضمه وتمثّله. ويتحدّث عن ظاهرة شائعة في حياتنا الثقافية وغير الثقافية هي ظاهرة تمجيد شخص ما يومًا، ثم إحالة هذا الشخص عينه إلى الإهمال والنسيان بل والشتم والإدانة يومًا آخر، ويعطي مثالًا على ذلك طه حسين. فطه حسين هو عميد الأدب العربي وباعث التراث وصاحب المنهج ومُؤمّم العلم، وهو مرةً أخرى تلميذ المبشّرين وعميل الاستعمار وعدوّ العروبة. طه حسين هو الحافظ وهو المبدد، وهو التقليديّ وهو المجدد، يراه البعض سابقًا لعصره، ويراه البعض الآخر بقيةً من عصور سبقت. وليت أن الرأيَين قد التقيا في ساحة واحدة وتصارعا فاختبرنا مدى صحة كل منهما بما يستند إليه من حجة وما يتسلّح به من منطق وما يتحلّى به من رصانة. فمن طبيعة الأمور أن تختلف الأمورُ حولَ طه حسين، كما تختلفُ حولَ كلّ شخصية مرموقة وحولَ كل فكرة مؤثّرة. ولكنّنا للأسف لا نرى صراعًا ولا حوارًا ولا نستمعُ إلى حجّة أو منطق، وإنّما هي سيادةٌ مطلقةٌ للمدح مرةً وللهجاء أخرى. الرأي والعمل ولقد انفرد طه حسين أو كاد أكثر من ثلاثين عامًا بتوجيه الحياة الثقافيّة والحكم فيها. ولا شكّ أنه في هذه السنوات التي ملأها بالكتابة والرأي والعمل لم يكن منزّهًا عن الخطأ ولا حتى عن الغرض، ومع ذلك كان يبدو فوق النقد. وقليلٌ من الناس هم الذين قرأوا في نقده ما قاله الرافعي، وزكي مُبارك، والمازني، ومحمد مندور. حتى إذا تغيّرت الظروف في أواسط الخمسينيات رأينا بعض صغار الكتبة يصفون أدبه بأنه أدبُ عفاريت لأنه يتكلّم في بعضه عن أساطير القدماء، بل ويطالبون بقطع راتبه الذي كان يتقاضاه من صحيفة الجمهورية لقاء وضع اسمه في رئاسة تحريرها والكتابة لها من حين لآخر، وقد تحقّق لهم ذلك فعلًا على يد رجل يُدعى حلمي سلام لم يعد التاريخ يَذكر عنه إلا أنّه رفع اسم طه حسين من رئاسة تحرير الصحيفة حين عُيّن مسؤولًا عنها. الأصول ويتعرض في فصل آخر لآراء وبحث في مقال لرجاء النقاش عن لويس عوض ويفنّدها ويدافع عن عوض. فقد أخذ رجاء على الدكتور لويس عوض مآخذ كثيرة تتناول الأصول، كما تتناول الفروع. فأما مآخذه الأصولية والمنهجية فيمكن تلخيصها في عدة نقاط، منها أن الدكتور لويس عوض ينكر عروبة مصر، وأنه يصرّ على تجريد الثقافة العربية من أصالتها، ويفتعل الأدلة التي تثبت أنها منقولة عن الثقافة الغربيّة، وأن نقده للثقافة العربية نقد لا منتمٍ، أو هو ثورة ضد هذه الثقافة لا من داخلها، كما كانت ثورة طه حسين، وأنه يعامل الحضارة الإسلامية على أنها ديانة فقط، وأنه في النهاية يتناقض، فيرى الرأي في مكان، ويرى نقيضه في مكان آخر. أما المآخذ الفرعية الموضعيّة فمنها إنكار الدكتور لويس لأصالة ابن خلدون والمعري وابتكاراتهما، وادّعاؤُه أن اللغة العربية نفسها متأثرةٌ باللاتينية أو تابعة لها، ودعوته لإحلال العامية محل الفصحى، وتجاهله لأعمال الكتّاب العرب غير المصريين كمحمود المسعدي، وحنا مينا وعبدالرحمن منيف، ومحمود درويش وسواهم، ومنها أخيرًا دفاعه عن المعلم يعقوب، وهو رجل من أقباط مصر تعاون مع الفرنسيّين أثناء احتلالهم لوطنه وحارب إلى جانبهم. وقد اعتبره الدكتور لويس داعيةً للاستقلال، بينما يحاول التشكيك في إخلاص زعيم إسلامي كبير هو جمال الدين الأفغاني، مُثيرًا من الشُّبهات حول علاقته مع الإنجليز ما يوحي بأنّه كان عميلًا لهم. التهم يفنّد أحمد عبدالمعطي حجازي هذه «التهم» المُوجهة إلى لويس عوض، منها أنه ينكر على ابن خلدون أصالته وابتكاراته، وأنه نقل نظرياته في فلسفة التاريخ من الأوروبيّين لأنّه كان يعرف اللاتينيّة. وهذا ما لم يقله لويس عوض على الإطلاق لا تصريحًا ولا تلميحًا، بل هو يقول عكسه على طول الخط، إذ يرى أن ابن خلدون «مفكر عظيم وفيلسوف خطير وعالم في علوم العمران قلّ أمثالُه منذ عرف الإنسان العلمَ وعرف العمران». إبن خلدون وهذا هو نصّ عبارة عوض الذي رأى أن ابن خلدون لم يكن يستطيع أن يصل إلى ما وصل إليه من نظريات مبتكرة ولا أن يحيط بتواريخ العرب والبربر والترك واليونان والرومان والقوط والفندال والفرنجة الذين كتب عنهم مئات الصفحات إلا إذا كان مثقفًا ثقافة واسعة عميقة، وإلا إذا كان قارئًا نهمًا لما وصل إليه من تراث هذه الشعوب التي استخرج من تواريخها فلسفة للتاريخ وأسس علم الاجتماع. يقول لويس عوض: فالأرجح ولا أقول الثابت أنّ ابن خلدون كان يقرأ لاتينيّة العصور الوسطى ويتكلّم اللسان الإسباني أقول الراجح وليس الثابت لأن المعروف أنه كان في كل بلاط فئة من التراجمة والمُترجمين ونستطيع أن نقول إنّ ابن خلدون رغم اطّلاعه على التراث القديم وعلى تراث معاصريه العربي منه وغير العربي في مشرق الأرض ومغربها لم يفقد أبدًا شخصيته المستقلة التي جعلته يتمثّل كل هذا التراث ويبتكر في أسس الاجتماع وفي فلسفة التاريخ خطير النظريات التي جعلت منه قطبًا من أقطاب الفكر الاجتماعي والسياسي معاصرًا لعصر النهضة الأوروبية وركنًا ركينًا من أركان الفكر البورجوازي الثائر. فأين إنكار الابتكار والأصالة في هذا التمجيد الحماسي؟ نظريات والدكتور لويس لم يقل إن العربيّة تابعة للاتينيّة، فهذا كلام غير مفهوم، وإنما قال إنّ العربية كاللاتينيّة تخضع لهذه القوانين، وهناك على العكس مما يتهم به الدكتور لويس من قال إنّ العربية هي أصل كل لغات الأرض كما فعل الشيخ محمد أحمد مظهر الذي يحدّثنا عنه الدكتور علي عبدالواحد وافي في كتابه «فقه اللغة»، فيقول إنه نشر تسع مقالات باللغة الإنجليزية في مجلة «الديانات» التي تصدر في الهند يستعرضُ فيها أصول طائفة من اللغات الحيّة والميّتة مبينًا انشعابها من أصول اللغة العربية، أما الدعوة إلى العامية فهي قائمة حقًا على الدعوة إلى القوميّة المصريّة لكنهما معًا ظهرتا قبل أن يُولد لويس عوض فشايعهما ولم يخترعْهما، وإن تخلّى عن الدعوة الأولى كما نرى من كتاباته، فكلها بالفصحى باستثناء بعض أشعاره العامّية وكتابه»مذكرات طالب بعثة». العامية ولقد دعا إلى العامّية قبله بسنوات طويلة أحمد لطفي السيّد، وقاسم أمين، وعبدالعزيز فهمي، وسلامة موسى، بل لقد دعا إلى العامّية قبل الجميع بقرون طويلة العلامة ابن خلدون ونصّ ابن خلدون ينقله حجازي في كتابه. ويقول في فصل آخر حول ما الذي استفاده من إقامة طويلة في العاصمة الفرنسية:» لقد أصبحت أكره أن ادّعي بغير بيّنة، وصرت أجد في حرية خصمي شرطًا يثبت حريّتي ويضمنها، فأنا حرّ في دعوتي للعروبة بقدر ما إنّ لويس عوض حرّ في معارضتها، ولا خشية على العروبة من الحرية، لأنها لا تقوم بكلامي ولا تنهدم بكلامه، وإنما هي واقع ماثلٌ للعِيان يزدهرُ في الحرية ويذبلُ في الاستبداد. ولا يرى ضيرًا في أن يكتب مثقفٌ ومفكر غير مسلم كالدكتور لويس عوض ما كتب عن جمال الدين الأفغاني: فمع تقديري البالغ لآراء جمال الدين الأفغاني والعقلية الفذّة وشخصيته الجبارة وإعجابي بسيرة حياته الغنية وخاصة بالدور الباهر الذي اضطلع به في بعث روح اليقظة عند المُسلمين وفي إشعال نيران الثورة الديمقراطية في مصر وفي أنحاء مُختلفة من العالم الإسلامي لا أرى أن الأفغاني موضوع من موضوعات العقيدة حتى نستنكر أن يتناوله مثقفٌ غير مسلم». إنّ جمال الدين الأفغاني في حقيقته فيلسوف اجتماعي وقائد سياسي، ولقد جرّت عليه بعض آرائه نقمة عددٍ من علماء الدين في زمنه وخاصة حين تابع الفلاسفة العرب القدماء كالكندي وابن سينا وابن عربي. التعدد ويدافع حجازي في فصلٍ آخر عن التعدّد والتنوع في الثقافة العربية. فهل كان يمكن أن تزدهر الصحافة والمسرح والسينما في مصر بغير جهود العديد من الكتّاب والفنّانين اللبنانيّين والسوريّين، وهل كان نجاح الكتاب اللبناني إلا ثمره لجهود عربية مُختلفة؟ لقد اشتهرت في الخمسينيات كلمةٌ تقول إنّ الكتاب العربي يُؤلّف في مصر، ويُطبع في لبنان، ويقرأ في العراق، ولاشكّ أن الظروف اختلفت فيما بعد، ولكن المعنى الجوهري لهذه الكلمة يظلّ صحيحًا، فالكتاب في بلادنا لا يمكن إلا أن يكون عربيًا فإن صار محليًا مات. إنّ الكتابة كالقراءة كلتاهما إجابة عن أسئلة أو تساؤلات، إجابة تُثير بدورها أسئلة جديدة وإجابات جديرة. إن النشاط الثقافي تعدُّدٌ وحوارٌ وصراعٌ وتفاعلٌ، وهو ما لا يكون في غياب الحرية، لقد ردّ البعض أزمة الكتاب المصري إلى ضعف القدرة الشرائية وإلى الأُمّية وإلى نظم التعليم وقوانين الاستيراد والتصدير، وهي كلها أسبابٌ صحيحة، لكنّ السبب الجوهري- وأعني غياب الحرية سنوات طويلة- لا يُذكر إلا إشارات قليلة. لا يمكن أن تكون الثقافة اللبنانيّة غير عربية، وتمارس في الوقت نفسه تأثيرًا على العرب. هل كان للثقافة اللبنانيّة دورٌ إلا بدايةً من صيحة اليازجي: تنبّهوا واستفيقوا أيُّها العربُ فقد طما الخطبُ حتى غاصت الركبُ وينهي حجازي هذا الفصل عن الثقافة العربية بقوله: «إنّ مصر تستطيع أن تستعيد مكانتَها الثقافيةَ، فهي مؤهلة لذلك، ويستطيع لبنان أن يُحافظ على دوره، فنحن في حاجة إليه، بل نحن في حاجة إلى دور كل العرب مُجتمعين. لكن كل شيء بحقّه، فلا مكانة ولا دور بغير اثنتَين: الديمقراطية والعروبة!. كتاب من جزأين يُقرأ بشغف وتُعاد قراءته لما يتضمّنه من ملاحظات في غاية الأهمية عن الثقافة العربية حينًا وعن الثقافة الأجنبيّة حينًا آخر.

مشاركة :