العالم بحجم كف اليد

  • 2/8/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

بينما كنت أحاول البحث عن المفاتيح في الحقيبة بعد أن وصلت متأخرة عن موعدي في مبنى البلدية، انفطرت شاشته وتحولت خطوط الفطر إلى ما يشبه بيت عنكبوت، ووسط دهشتي وصلتني مكالمة من صديقة، لكن خاصية اللمس كانت تعطلت ولم أستطع الرد على المكالمة. هذه فكرة مزعجة حقا، أن تمنعني شاشة صماء عن التواصل مع الآخرين. بدا لي الأمر في أوله مجرد حادث عرضي، لكني وقبل أن أرجع الهاتف للحقيبة، تذكرت إني أبعد بمسافة ليست بالقصيرة عن المنزل وعن مدرسة ابني الذي اعتدت أن أقله عند نهاية اليوم الدراسي.. كان لا بد لي أن أنهي موعدي بأسرع ما يمكن لأتوجه إلى محل الهواتف لحل المشكلة. استغرق مني الوصول إلى محل الهواتف أكثر من ساعة قيادة وسط زحام لا يطاق مع انتشار إشارات المرور المؤقتة التي وضعها عمال بناء على حواشي الشوارع الفرعية، حيث أغلقت ثلاثة مداخل على الأقل أثناء مروري على امتداد المسافة بين البلدية والشارع التجاري، فكان عليّ أن أغير وجهتي في كل مرة وأدور إلى شوارع بديلة لأتجنب الخطوط المتقاطعة. كل أعمال البناء هذه ومعها الحفريات كانت تجري على قدم وساق لإعادة رصف وتعبيد الشوارع، حركة مستمرة صرت ألاحظها على مدى شهور في المناطق القريبة من محل سكني وكانت تسبب لي الانزعاج والحيرة، هل يعقل هذا؟ ما الداعي من إعادة صياغة معالم هذه الحياة وهي تعاني سكرات الموت،أم تراهم يجمّلون الشوارع ويقلمون أظافرها كمن يغسل ميتا ويكفنه استعداداً لدفنه؟ لم أكن متشائمة في الآونة الأخيرة كما اعتدت في سنوات بعيدة، لكني بت أشعر بلا جدوى كل شيء حيث تمضي الأيام بخطط صغيرة تتناسب والسرعة التي يبدل بها هذا العالم سحنته، كل يوم هناك جديد، تقدم وتأخر، بناء ونكوص، أمل وخيبة ثم تأتي الحوادث الشخصية البسيطة لتكمل لوحة الفوضى. سمعت الهاتف يرن ثانية وثالثة وهو مسجون داخل الحقيبة، حاولت تجاهل الأمر وأنا أتنصل من القطع الأخير في الشارع الرئيس حتى استطعت أخيراً إنهاء رحلتي لتستقر السيارة عند شارع فرعي قصير ومغلق عند النهاية، وها هو صوت الهاتف مجدداً؛ مكالمة من ابنتي ثلاث رنات وصمت، تبعتها بلحظات قصيرة مكالمة ثانية أكثر إلحاحاً مع سبع رنات، ما هذه الورطة؟ ماذا لو كان أمراً طارئاً؟ ربما لا، أسرعت قليلاً وحين وصلت كان المحل مزدحماً. قلت، لأتسكع قليلاً في الشارع التجاري ريثما ينتهي الرجل من تصليح الشاشة المهشمة، وأثناء مروري على صف المحلات المجاورة، لمحت واجهة المطعم الصيني الشهير فتملكني الفضول لألقي نظرة سريعة على زبائنه الشجعان، لكني لم أعثر على كائن واحد يسير على قدمين وبدلاً من ذلك وجدت المكان مظلما والأبواب مغلقة دون أي إشعار، تبعتها بنظرة فضول ثانية لكن المكان كان ساكتاً وأشبه بقصر مهجور كأن الناس غادروه منذ سنوات أو كأنه لم يكن موجودا في الأساس، يا للغرابة! ما هذا العالم الملتبس الذي يتحكم فيه فايروس وشريحة إلكترونية؟ عندما استعادت شاشة الهاتف بريقها، كان قد فات على موعد خروج طلاب المدرسة الثانوية أكثر من نصف ساعة وحين تفحصت هاتفي وجدت عشر مكالمات مفقودة ورسائل كثيرة، أعدت الاتصال بابني لأطمئن عليه لكن هاتفه كان مغلقاً ثم كررت المحاولة دون جدوى، أما ابنتي فقد أرسلت كلمات مختصرة ومجموعة رموز (إيموجي) غاضبة تستفهم فيها عن سبب عدم ردي على مكالماتها، كنت أريد أن أطمئنها لكني فضلت أن أقطع بقية المسافة إلى المنزل بسرعة وتركيز أكبر، وعندما وصلت كان الاثنان بانتظاري وألف سؤال تعلو وجوههم الغاضبة. قلت لهم: تهشمت شاشة الهاتف، أعتذر بالنيابة عن التقدم العلمي الذي وضعنا في هذه الورطة فهذا الجهاز المتطفل أصبح يتحكم بحياتنا أكثر من اللازم، أظن أن أمي كانت أسعد مني حالاً فهي على الأقل لم تكن مجبرة على تعقب خط سير شريحة إلكترونية لتطمئن على أبنائها، كان يكفيها أن تدعو لنا بسلامة العودة إلى المنزل. نظرت ابنتي بلامبالاة لكف يدي المرتجفة وهي تحمل الهاتف، ثم ابتسمت بمكر وهي تقول: أرجو ألا يكون الطباخ قد تهشم هو الآخر، هل نطلب وجبة سريعة بالهاتف؟

مشاركة :